صابرين المساوي
لقد تعلمنا أنه لا يمكن قراءة الخطب الملكية بدون الرجوع الى مضامين الخطب السابقة ، وأن هناك خيط رابط بين جميع الخطب الملكية ، وبالتالي فان أي قراءة لا تأخذ بعين الاعتبار الخطابات السابقة تبقى قراءة معيبة وتزيغ عن الصواب
عندما نقرأ خطاب 20 غشت 2019 , فاننا نستحضر بشكل اوتوماتيكي خطب ملكية أخرى حملت معها ثورات هادئة في مجالات الادارة العمومية والديبلوماسية والجهوية المتقدمة ومراكز التكوين المهني والتعليم ومراكز الاستثمار الجهوي وميثاق اللامركزية …وغيرها من المجالات التي تهدف الى تحسين حياة المواطن وتجويد الخدمات العمومية ، وتسعى الى تحقيق مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية …
كما نقرأ في خطاب الثورة المتجددة والمتواصلة لسنة 2019 , تأكيدا على ان هذه ” الثورات الهادئة ” التي يقودها جلالة الملك محمد السادس أو الأوراش الوطنية الكبرى يجب أن تتم بشكل تشاركي واندماجي يضمن انخراط جميع القوى الوطنية الحية …
لقد جاء في أكثر من خطاب ملكي ، أن تشريح وتشخيص الواقع بكل جرأة وموضوعية ليس نقدا هداما ولا يدخل في خانة جلد للذات ، لكنه نقد بناء خاصة وأنه مرفوق دائما بالاقتراحات والحلول الاستعجالية والاستراتيجية ..
لقد شكلت خطب جلالة الملك محمد السادس جيلا جديدا من الخطب ، اذ تميزت بالواقعية والموضوعية والجرأة ، سواء في مجال تشخيص الواقع وانتقاد أداء المؤسسات والمرافق العمومية أو في مجال طرح وصفات الحلول الاستراتيجية …
” بدون مواطن لن تكون هناك ادارة “
يقول جلالة الملك محمد السادس ، ضمن نص خطاب وجهه الى أعضاء البرلمان برسم افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية يوم الجمعة 14 اكتوبر 2016 ” الهدف الذي يجب أن تسعى اليه كل المؤسسات هو خدمة المواطن ؛ وبدون قيامها بهذه المهمة فانها تبقى عديمة الجدوى ، بل لا مبرر لوجودها أصلا . وقد ارتأيت ان اتوجه اليكم اليوم ، ومن خلالكم لكل الهيئات المعنية والى عموم المواطنين ، في موضوع بالغ الأهمية هو جوهر عمل المؤسسات وأقصد هنا علاقة المواطن بالادارة ، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية ، والادارة الترابية ، أو بالمجالس المنتخبة ، والمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية …”
ويواصل جلالة الملك ” أقصد ايضا مختلف المرافق المعنية بالاستثمار وتشجيع المقاولات ، ومن قضاء الحاجيات البسيطة للمواطن ، كيفما كان نوعها ؛ فالغاية منها واحدة ، هي تمكين المواطن من قضاء مصالحه في أحسن الظروف والاجال ، وتبسيط المساطر ، وتقريب المرافق والخدمات الأساسية منه . أما اذا كان من الضروري معالجة كل الملفات ، على مستوى الادارة المركزية بالرباط ، فما جدوى اللامركزية والجهوية ، واللاتمركز الاداري ، الذي نعمل على ترسيخه منذ ثمانينيات القرن الماضي ..”
ويؤكد جلالة الملك ان المرافق والادارات العمومية تعاني من عدة نقائص تتعلق بالضعف في الأداء وفي جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين ، ويقول انها ” تعاني من التصخم وقلة الكفاءة ، وغياب روح المسؤولية لدى العديد من المواطنين ” وان ” الادارة تعاني ، بالأساس ، من ثقافة قديمة لدى أغلبية المغاربة …فهي تشكل بالنسبة للعديد منهم مخبأ يضمن لهم راتبا شهريا ، دون محاسبة على المردود الذي يقدمونه ” …ويضيف جلالة الملك ” المسؤولية تتطلب من الموظف الذي يمارس مهمة أو سلطة عمومية ، والذي توضع أمور الناس بين يديه ، أن يقوم على الأقل بواجبه في خدمتهم والحرص على مساعدتهم . والواقع أن الوظيفة العمومية لا يمكن أن تستوعب كل المغاربة ، كما أن الولوج اليها يجب أن يكون على أساس الكفاءة والاستحقاق وتكافؤ الفرص .”
ويؤكد جلالة الملك ان ” اصلاح الادارة يتطلب تغيير السلوكات والعقليات ، وجودة التشريعات ، من أجل مرفق اداري عمومي فعال في خدمة المواطن …فالوضع الحالي يتطلب اعطاء عناية خاصة لتكوين وتأهيل الموظفين ، الحلقة الأساسية في علاقة المواطن بالادارة ، وتمكينهم من فضاء ملائم للعمل ، مع استعمال اليات التحفيز والمحاسبة والعقاب ، كما يتعين تعميم الادارة الالكترونية بطريقة مندمجة ، تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف القطاعات والمرافق…”
ان ” الجهوية المتقدمة ، التي أصبحت واقعا ملموسا ، تشكل حجر الزاوية الذي يجب ان ترتكز عليه الادارة في تقريب المواطن من الخدمات والمرافق ومن مراكز القرار . (…) فعلى الجميع مواكبة التطور ، والانخراط في الدينامية المؤسسية والتنموية التي نقودها ببلادنا ، والكل مسؤول على نجاعة الادارة العمومية والرفع من جودتها باعتبارها عماد اي اصلاح وجوهر تحقيق التنمية والتقدم ، الذي نريده لأبناء شعبنا الوفي ….”
الكفاءة أساس النجاعة
ويعتبر خطاب العرش ، 29يوليوز 2017 , أن العديد من الموظفين العموميين لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة ، ولا على الطموح اللازم ، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية ، مشيرا الى أن العديد منهم لا يقضون سوى أوقات معدودة داخل مقر العمل ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون على قلته بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي …
يقول جلالة الملك ” ان من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو ضعف الادارة العمومية ، سواء من حيث الحكامة أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات ، التي تقدمها للمواطنين …”
في الحاجة الى جيل جديد من الكفاءات
خطاب العرش ليوم 29 يوليوز 2019 ، خطاب له خصوصية تاريخية ، اذ يؤرخ لعشرين سنة من حكم الملك محمد السادس ، وعشرين سنة من الخطب والتواصل المباشر مع شعبه أينما كان ، سواء داخل الوطن او من مغاربة العالم …
لقد تضمن خطاب العرش لسنة 2019 , بعد تشخيص واقعي ، طرح حلول عملية بلغة واضحة لا تحتاج الى كثير شرح أو تأويل ، وان المغرب يحتاج للمرحلة الجديدة ادوات جديدة واليات جديدة من نخب وطنية ذات كفاءة عالية وضخ دماء جديدة ، سواء في المسؤوليات الحكومية أو الادارية …
ان لغة خطاب العرش لسنة 2019 هي لغة سلسة تفهمها كل الفئات المغربية ، لوضوحها وواقعيتها . وللقفز الى جانب الدول المتقدمة يلزمنا جيل جديد من المشاريع وجيل جديد من الكفاءات وجيل جديد من عقليات التسيير ، وهو ما عبر عنه الخطاب بثورة ثلاثية الأبعاد ، ثورة في التبسيط وثورة في النجاعة وثورة في التخليق .
خطاب قوي ، صريح ، حاسم وصارم وجريء…مغرب اليوم يختلف عن مغرب الأمس اختلافات الكون كلها ، وحده شيء أساسي لا زال ثابتا في النبض : حب الوطن وخدمة المواطن .
خطاب العرش توسل حقلا دلاليا معظمه يدور حول الانسان والمواطن المغربي ، تم توزيعه على كل محاور الخطاب بدءا بتقديم الحصيلة لعشرين سنة من الحكم ، قوامها ملكية مواطنة تعتمد قانون القرب من المواطن ، مرورا باعتراف عدم شعور المغاربة بثمار المنجزات ، وانتهاء بجعل هدف تحسين ظروف عيش المواطنين البدء والمنتهى لكل تخطيط وتنفيذ وسلوك .
لم يختر محمد السادس النصف المملوءة من الكأس للاحتفال بمنجزات عشرين سنة من الحكم ، بل اختار النصف الفارغة وركز على نبض الحركات الاحتجاجية وتشكي المغاربة من أوضاع اجتماعية صعبة . توسل جملة باذخة بالانسانية ليقول للمغاربة ان قلبه يعتصر ألما لاستمرار الحاجة والخصاص لدى النزر القليل من المغاربة ، فاتحة شراع الأمل لتجاوز هذا الوضع عبر تشريح شجاع لمعيقات هذا الطموح ، بدءا بالمؤسسات والأفراد والعقليات ، معتبرا ان بناء النموذج التنموي يحتاج تشخيصا واقعيا مهما كانت قساوته ، ويحتاج قبل كل ذلك لعقلية ودماء قادرة على الخلق والابداع ، منتقدا القطاع العام والياته الباردة في التجاوب مع طموح التحديث والتغيير .
التحديث والتغيير سيتم من داخل ثلاثية متلازمة تقوم على التبسيط والنجاعة والتخليق ، من داخل استمرارية لما هو صالح من التصورأت والادوات ، ولذلك يقدم الملك اجابات مترابطة لعتبات تبني هذا النموذج ، بدءا من تحفيز المؤسسات القائمة ، وعلى رأسها الحكومة ، للقيام بمبادرات لتجويد ادائها وضخ دماء قادرة على تمثل النموذج التنموي المأمول ، مرورا بالمؤسسات العمومية المعنية بالاستثمار والخدمات لتغيير جلدها المترهل ، عبر منح الكفاءات فرص قيادة التغيير داخل دواليب الادارة والمؤسسات .
يقول صاحب الجلالة : ” فالمرحلة الجديدة ستعرف ان شاء الله ، جيلا جديدا من المشاريع . ولكنها ستتطلب ايضا نخبة جديدة من الكفاءات ، في مختلف المناصب والمسؤوليات ، وضخ دماء جديدة ، على مستوى المؤسسات والهيات السياسية والاقتصادية والادارية بما فيها الحكومة . “
خطاب العرش كان قويا ، صارما ، صريحا ، لم يكتف هاته المرة بقولها ” نحن نريد سماع الحقيقة كاملة عما يجري في بلادنا وان كانت قاسية ومؤلمة ” ، لم يكتف هاته المرة بقولها مثلما هي للمسؤولين والمواطنين ، بل مر الى اقتراح البديل والى وضع المرحلة الجديدة للبلاد عنوانا للقادم .
المغاربة الذين يقولونها بكل اللغات عن تبرمهم ومللهم من وجوه بعض المزمنين الذين لا يريدون الرحيل ، سمعوا ملك البلاد يقول بأن الحاجة ضرورية اليوم لكفاءات ووجوه وطاقات جديدة ….ان هذا الملك يريد العمل ، ويبحث عن الصادقين للعمل معه .
نعرف ان المغرب هو بلد كفاءات ، وبلد شباب ، واخرين أقل شبابا قادرين على ابداع كل الطرق والحلول للنهوض ببلادهم والسير معها جنبا الى جنب في كل مراحلها ، واساسا في مرحلتها الجديدة المقبلة.
هناك اقتناع ، هناك توافق بين الملك وبين شعبه ؛ ان الحاجة ماسة الى الوجوه الجديدة ، والكفاءات الحقيقية الجديدة ، والطاقات الشابة التي يمتلئ بها خزان هذا البلد حد الابهار .
وهذه المرة كانت واضحة اكثر من المرات السابقة ، وتقول باسم الشعب وباسم الملك معا ان الحاجة ماسة لضخ الدماء الجديدة في العروق ، التي لم تعد تستطيع الاشتغال بشكل سليم …ان المسالة تهم مستقبل بلد بأكمله .
خطاب 9 مارس 2011 قدم وصفة لأفق دستوري بدون سقف ، وطالب من الفاعلين ابتكار الوسائل الخلاقة لتجسيد روح ما اقترحه خطاب 9 مارس ، وخطاب 29 يوليوز يكرر التجربة باليتها وأفقها ، والمطلوب ان يكون لكل الفاعلين الشجاعة للابتكار عوض الركون للمحافظة التي قيدت الأفق المفتوح الذي وضعه خطاب 9 مارس في متناول المغاربة ، ولا مجال للمجاملة لأن الخطاب يبحث عن الابرة التي تخيط ثوب التنمية البهي داخل اشواك التشخيص والاقتراح
تفعيل ورش الجهوية المتقدمة
ان تفعيل ورش الجهوية بات حاجة وطنية ملحة من أجل تحقيق التنمية الشاملة ، فالجهوية هي المدخل لتحقيق تنمية مستدامة ، وهذا هو الخيار الذي يراهن عليه المغرب ، لكن ذلك يتطلب ارادة حقيقية وانخراط الجميع في انجاح هذا الورش .
وجلالة الملك الذي بدا متفائلا ،في خطاب 20 غشت ، بكسب رهانات المرحلة المقبلة ، يراهن على هذا الورش لتحقيق التنمية المستدامة . يقول جلالته في خطاب ثورة الملك والشعب ” ..اننا نعتبر أن التطبيق الجيد والكامل ، للجهوية المتقدمة ، ولميثاق اللاتمركز الاداري ، من أنجع الاليات التي ستمكن من الرفع من الاستثمار الترابي المنتج ، ومن الدفع بالعدالة الاجتماعية .”
غير انه بالرغم من النصوص القانونية التي راكمها المغرب بخصوص ورش الجهوية ، فان الأمور لا تسير كما كان مسطرا لها ، يقول جلالة الملك ” الا ان الملاحظ رغم الجهود المبذولة ، والنصوص القانونية المعتمدة ، ان العديد من الملفات ، ما تزال تعالج بالادارات المركزية بالرباط ، مع ما يترتب عن ذلك من بطء وتأخر في انجاز المشاريع ، وأحيانا التخلي عنها .
وفي هذا الاطار أدعو الحكومة لاعطاء الاسبقية لمعالجة هذا الموضوع ، والانكباب على تصحيح الاختلالات الادارية ، وايجاد الكفاءات المؤهلة ، على المستوى الجهوي والمحلي ، لرفع تحديات المرحلة الجديدة .”
لم يعد أمام قطار الجهوية سوى الانطلاق بشكل سليم ، بعدما تم ترصيص سكته بكامل المراسيم التطبيقية ، كان أخرها ميثاق اللاتمركز الاداري الذي يتطلب ، اليوم اكثر من أي وقت مضى ، اطرا قادرة على اتخاذ القرار في المكان عينه ، للقطع مع سياسة ” وسير لرباط ” كي توافق الادارة المركزية على انجاز مشاريع تنموية ، التي تتأخر دائما بمختلف مناطق المغرب جراء سيادة البيروقراطية ، فما زالت الادارة المركزية تهيمن على الكثير من المجالات المفروض تفويتها للجهات بحكم القانون …