هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد اليحصبي أبو الفضل القاضي المحدث الحافظ ، ولد في “سبتة” من بلاد المغرب الأقصى ، وسمع من مشيختها ، وتفقه ببعضهم ، ورحل إلى الأندلس فأخذ بقرطبة عن أبي الحسين بن سراج وأبي عبد الله بن حمدين وأبي القاسم بن النخاس وابن رشد ، وغيرهم , ورحل منها إلى مرسية فقدمها في غرة صفر سنة 508 ، فتفقه ودرس وتعلم وناظر حتى فاق أقرانه وذاع صيته .
كانت له اليد الطولى في كافة العلوم ، من الحديث والفقه والأصول واللغة وغيرها، وله المصنفات العديدة ، التي انتفع بها الناس .
قال الفقيه أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكول رحمه الله : ” قدم الأندلس طالبا للعلم ، وأخذ بقرطبة عن القاضي أبي عبد الله مج بن علي ، وغيرهم ، وأجاز له أبو علي الغساني ما رواه ، وأخذ بالمشرق عن القاضي علي حسين بن محمّد الصدفر كثيرا ، وعن غيره ، وعني بلقاء الشيوخ ، والأخذ عنهم ، وجمع من الحديث كثيرا ، وله عناية كبيرة بهم ، واهتم بجمعه وتقييده ، وهو من أهل التفنن في العلم ، والذكاء واليقظة الفهم، واستقضى ببلده مدة طويلة ، فحمدت سيرته فيها ، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة ، فلم يطل أمده بها ، وقدم علينا قرطبة في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة ، وأخذنا عنه بعض ما عنده ” انتهى .
“الصلة” (ص 146) – “أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض” (ص 240)
وقال ابن الأبار رحمه الله : ” كان لا يُدرك شأْوُه ، ولا يُبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث ، وتقييد الآثار ، وخدمة العلم مع حسن التفنن فيه ، والتصرف الكامل في فهم معانيه ، إلى اضطلاعه بالآداب ، وتحققه بالنظم والنثر ، ومهارته في الفقه ، ومشاركته في اللغة والعربية .
وبالجملة : فكان جمال العصر ، ومفخر الأفق ، وينبوع المعرفة ، ومعدن الإفادة ، وإذا عدت رجالات المغرب ـ فضلا عن الأندلس ـ حسب فيهم صدرا ، وله تواليف مفيدة كتبها الناس وانتفعوا بها وكثر استعمال كل طائفة لها .
وولي قضاء بلده مدة طويلة ، ثم نقل إلى قضاء غرناطة فلم يطل مقامه بها ، وأعيد إلى سبتة ثانية ، ومنها أشخص إلى مراكش وفيها توفي مغربا عن وطنه يوم الجمعة السابع من جمادى الآخرة سنة 544 ، ودفن بباب إيلان داخل المدينة ومولده منتصف شعبان سنة 476 “.
وقال الذهبي رحمه الله في ترجمته من “السير” (39/205-206) :
” الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الحَافِظُ الأَوْحَدُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ القَاضِي أَبُو الفَضْلِ عِيَاضُ بنُ مُوْسَى بنِ عِيَاضِ بنِ عَمْرِو بنِ مُوْسَى بنِ عِيَاضٍ اليَحْصَبيُّ الأَنْدَلُسِيُّ ثُمَّ السَّبْتِيُّ المَالِكِيُّ .
وُلِدَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ .
تَحَوَّل جَدّهُم مِنَ الأَنْدَلُس إِلَى فَاس ، ثُمَّ سَكَنَ سَبْتَة .
لَمْ يَحمل القَاضِي العِلْم فِي الحدَاثَة ، وَأَوّل شَيْء أَخَذَ عَنِ الحَافِظ أَبِي عَلِيٍّ الغَسَّانِيّ إِجَازَة مُجرَّدَة ، رحل إِلَى الأَنْدَلُسِ سَنَة بِضْع وَخَمْس مائَة ، وَرَوَى عَنِ القَاضِي أَبِي عَلِيٍّ بنِ سُكَّرَةَ الصَّدَفِيّ وَلاَزمه ، وَعَنْ أَبِي بَحْر بن العَاصِ ، وَمُحَمَّد بن حمدين ، وَأَبِي الحُسَيْنِ سرَاج الصَّغِيْر ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ بنِ عَتَّابٍ ، وَهِشَامِ بنِ أَحْمَدَ ، وَعِدَّةٍ .
وَتَفَقَّهَ بِأَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى التَّمِيْمِيِّ ، وَالقَاضِي مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ المَسِيْلِيِّ .
وَاستبحر مِنَ العُلُوْم ، وَجَمَعَ ، وَأَلَّفَ ، وَسَارَتْ بِتَصَانِيْفِهِ الرُّكبَانُ ، وَاشْتُهِرَ اسْمُهُ فِي الآفَاق .
وَقَالَ الفَقِيْه مُحَمَّد بن حَمَّاده السَّبْتِيُّ : جلس القَاضِي لِلمُنَاظَرَةِ وَلَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً ، وَوَلِيَ القَضَاءَ وَلَهُ خَمْس وَثَلاَثُوْنَ سَنَةً ، كَانَ هَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعفٍ ، صَلِيْباً فِي الحَقِّ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِسَبْتَةَ فِي عصرٍ أَكْثَرَ تَوَالِيفَ مِنْ تَوَالِيْفِهِ ، لَهُ كِتَاب ( الشفَا فِي شرف المُصْطَفَى ) مُجَلَّد ، وَكِتَاب ( تَرْتِيْب المدَارك وَتَقْرِيْب المسَالك فِي ذكرِ فُقَهَاء مَذْهَب مَالِك ) فِي مُجَلَّدَات ، وَكِتَاب ( العقيدَة ) ، وَكِتَاب ( شرح حَدِيْث أُمِّ زرع ) ، وَكِتَاب ( جَامِع التَّارِيْخ ) الَّذِي أَربَى عَلَى جَمِيْع المُؤلفَات ، جَمعَ فِيْهِ أَخْبَار مُلُوْك الأَنْدَلُس وَالمَغْرِب ، وَاسْتَوْعَبَ فِيْهِ أَخْبَار سَبتَةَ وَعُلَمَاءهَا ، وَلَهُ كِتَاب ( مشَارقِ الأَنوَار فِي اقتفَاء صَحِيْح الآثَارِ ) إِلَى أَنْ قَالَ :
وَحَاز مِنَ الرِّئَاسَة فِي بلدِه وَالرّفعَة مَا لَمْ يَصل إِلَيْهِ أَحَد قَطُّ مِنْ أَهْلِ بلده ، وَمَا زَاده ذَلِكَ إِلاَّ تَوَاضعاً وَخَشْيَة للهِ تَعَالَى ، وَلَهُ مِنَ المُؤلفَات الصّغَار أَشيَاءُ لَمْ نَذكرهَا .
قَالَ القَاضِي شَمْس الدِّيْنِ فِي ( وَفِيَات الأَعيَان ) : هُوَ إِمَام الحَدِيْث فِي وَقْتِهِ، وَأَعْرفُ النَّاس بِعُلُوْمِهِ ، وَبِالنَّحْوِ ، وَاللُّغَةِ ، وَكَلاَمِ العَرَبِ ، وَأَيَّامهِم ، وَأَنسَابِهِم ، وَكُلّ تَوَالِيْفِهِ بَدِيْعَة ، وَلَهُ شعر حسن .
قُلْتُ – أي الذهبي – : تَوَالِيفه نَفِيْسَة ، وَأَجَلهَا وَأَشرفهَا كِتَاب ( الشفَا ) لَوْلاَ مَا قَدْ حشَاه بِالأَحَادِيْث المفتعلَة ، عَمَلَ إِمَامٍ لاَ نَقد لَهُ فِي فَن الحَدِيْث وَلاَ ذوق ، وَاللهُ يُثيبه عَلَى حسن قصدهِ ، وَيَنْفَع بِـ ( شِفَائِهِ ) وَقَدْ فَعَلَ ، وَكَذَا فِيْهِ مِنَ التَّأْوِيْلاَت البعيدَة أَلوَان ، وَنبينَا – صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَسلاَمه – غنِيٌّ بِمدحَة التنزِيل عَنِ الأَحَادِيْث ، وَبِمَا تَوَاتر مِنَ الأَخْبَار عَنِ الآحَاد ، وَبِالآحَاد النّظيفَة الأَسَانِيْد عَنِ الوَاهيَات ، فَلِمَاذَا يَا قَوْم نَتشبع بِالمَوْضُوْعَات ؟ فَيتطرق إِلَيْنَا مَقَالُ ذَوِي الغل وَالحسد ، وَلَكِن مَنْ لاَ يَعلم معذور .
وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ القَاضِي خلق مِنَ العُلَمَاءِ ، مِنْهُم : الإِمَام عَبْد اللهِ بن مُحَمَّدٍ الأَشِيْرِيّ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ بنُ القَصِيْر الغَرْنَاطِي ، وَالحَافِظ خَلَف بن بَشْكُوَال ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ بنُ عُبَيْدِ اللهِ الحَجْرِيّ ، وَمُحَمَّد بن الحَسَنِ الجَابِرِي ، وَوَلَده القَاضِي مُحَمَّد بن عِيَاضٍ قَاضِي دَانِيَة “.