محمد الگحص يكتُب: الأسى الكبير للمدرسة

بقلم: محمد الكحص

المدرسة تنفلت منّا، دعونا نرافق إعدامها المبرمج بما يشبه تعاويذ غير مكتملة ل”ديافوريس” في مسرحية موليير الشهيرة . تجارب عشوائية وارتجالات كانت ستكون مضحكة لولا أنها تضيف الكارثة إلى الفوضى؛ ثم تباهيات بائسة تافهة تثير السخط و السخرية.

كل ذلك يحدث منذ عقود: عبر سلسلة لا متناهية من الملتقيات حيث تُسوق التعبيرات المسكوكة كنظريات وتطرح النوايا الحسنة كتوصيات. هذه اللجان التي لا يمكن فهم أسرارها، اللهم العدد الهائل من المرشحين غير المتناسبين مع حالة الفشل الذريع الذي نتأسى عليه.

في نهاية هذه السلسلة من الأخطاء، من الطبيعي أن تتراكم الإخفاقات داخل سيول من الارتباك تكفي لدفن هذه “الجثة الكبيرة المقلوبة رأسًا على عقب” التي كانت تسمى المدرسة العمومية.

هل كان الوضع سيكون مختلفا عما هو عليه الآن لولا مقايضة المهمة التأسيسية و الموحدة للأمة، من خلال المعرفة و تكافؤ الفرص، مقابل الطبق المسموم إياه المكون من نظرة محاسباتية ضيقة، و التخلي عن كل أمل في التطور و الارتقاء الاجتماعي؟

ما نعيشه هو بالتأكيد استسلام تام لشراهة السوق الذي يكرس التفاوتات ويعمق الاقصاء، مهددا بذلك اللحمة الوطنية ومؤبدا الدوامة اللعينة لتأخرنا الاقتصادي، لإخفاقاتنا ومآسينا الاجتماعية، لهشاشتنا الديمقراطية، لضعفنا الثقافي، لاضطراباتنا المدنية، لقلقنا الحضاري، لتخبطاتنا الوجودية، ثم في نهاية المطاف، لقدرتنا على تشكيل المصير العظيم المشروع الذي نطمح إليه ونستحقه، لأطفالنا، ولأنفسنا، وللأمة.

هل ما زلنا نعي للأسف ما يعنيه رهان وجود مدرسة عمومية و موحدة و ذات جودة؟ هذا ليس مجرد رأي، ولا حتى مجالًا لتجريب وصفات تدبيرية غير راجحة (مثل التي تقدمها المكاتب الشهيرة للاستشارات والدراسات والتواصل، إلخ)، كل ذلك في قالب ليبرالي متطرف يُقدم نفسه – كحجة سلطة- في شكل عروض مرقمة ورسومات بيانية مثيرة فوق الشاشات المُغرية لأنبياء التسويق. أبدا، المدرسة العمومية هي مسألة حياة أو موت للأمة. يتحدد عبرها مصيرنا الفردي والجماعي. تنشأ منها الحركيات الإيجابية في حالة النجاح؛ أو تختمر فيها أفظع الكوارث عندما تفشل.

القراءة، الكتابة، الحساب، والتفكير، أو على الأقل تعلم كيفية القيام بذلك. من قال إنه عندما لا نعرف كيف نُعلم، فهذا يعني أننا لا نعرف ماذا نُعلم؟ مرة أخرى: القراءة، الكتابة، الحساب، والتفكير. هذا هو البرنامج، لن نخترع المدرسة من جديد.

فقط، هناك حاجة ملحة للتذكير بالمبدأ الذي لا يمكن تجاوزه في المدرسة: نقل المعرفة. هذه المهمة تقع على عاتق المدرسين أو “المعلمين” كما كان يُطلق عليهم في الماضي ، الذين جعلوا منها مهنتهم رسالتهم في الحياة . هم “مُقدّرون” ومُدربون لهذا الغرض. إنهم مفوضون من قبل المجتمع لينقلوا للتلاميذ (كنا نقول “تلاميذ” وليس “مُدرسين”: وهي كلمة مستقاة من “البيداغوجية المشؤومة” التي لوثت المدرسة لبعض الوقت قبل أن تختفي بفضل صحوة العقل أو المنطق البسيط). تنقل إليهم مجموعة من المعارف التي نعتبرها ضرورية لتكوين الطفل وتحريره. الكلمة المفتاحية هي تعلم ما لا نعرفه بعد، وما يجب أن نعرفه، وما لن نتعلمه في أي مكان آخر. بما في ذلك كيفية التساؤل عما نتعلمه من أجل استيعابه.

يتم ذلك في مدرسة، في فصل دراسي، حيث يجب أن تبقى السلطة الوحيدة، مستوحاة من المعرفة ومن مهمة تقاسمها: إنها سلطة المعلم. في المدرسة، التلاميذ متساوون في عملية التعلم والتلقين. يجب أن تكون المدرسة محصنة، ومنصبة على مهمتها. لا ينبغي أن يتسلل إليها صدى الخلافات، أو الاضطرابات، أو الإيديولوجيات، أو الموضات، أو النزوات الاجتماعية، أو الغزوات التجارية، تحت أي ذريعة كانت. السلطة التربوية هي الوحيدة المؤهلة للسماح أو عدم السماح بتدخل خارجي محتمل، بشرط أن يكون مبررًا بدقة وخاضعًا لإشراف المعلمين. تأمين مجال التعلم، والمدارس، هو الثمن الذي يجب الحفاظ عليه وهو غير قابل للمساومة.

تكوين المعلمين، وتعزيز مكانتهم الاجتماعية ومهمتهم، هو شرط مسبق. التحسين الجوهري لظروف عملهم يسير بشكل مواز مع استعادة سلطتهم التربوية الحصرية داخل مدرسة محصنة. يجب أن نثق بهم لتنفيذ هذه المهمة الحاسمة ألا وهي التعليم. هم يعرفون كيف يفعلون ذلك، بمساعدة الطاقم التربوي والإداري المناسب الذي ينبغي أن يشترك في نفس القيم التي تقوم عليها المدرسة العمومية الوطنية.

لكن، في قلب هذا المطلب الأساسي لظروف تعليم مثالية، يوجد واقع الحال: الوضع المادي للمدارس. بالإضافة إلى المعايير الدنيا الواضحة التي يتطلبها مكان يجب أن يتم فيه نشاط أساسي وحساس مثل التعليم، هناك روح هذا المكان. يجب أن يكون المكان وظيفيًا، مرحبًا، بل وحتى مريحًا ودافئًا، مجهزًا بشكل جيد ومُحافظ عليه، مما يساهم بشكل حاسم في العملية التربوية نفسها. احترام المدرسة ومهمتها لا ينفصل عن الصورة والرسالة التي يبعثها المبنى نفسه للتلاميذ والمعلمين. ولكن أيضًا لبقية السكان. في الواقع، كيف يمكننا أن نتصور، أو نحترم، أو نُعلي من مهمة نبيلة وحيوية مثل التعليم خلف مدارس متداعية، غير صحية، مشرعة على كل الرياح، إذا جازت الاستعارة؟

بكلمات أخرى، يجب أن تكون المدرسة مكانًا يُشجع التلاميذ والمعلمين على الذهاب إليه وقضاء أكبر وقت ممكن فيه، وليس العكس. المدرسة، من أول انطباع يتركه مظهرها الخارجي، يجب أن تُلهم الثقة والاحترام لدى السكان. إذ خلف هذه الجدران، يحدث شيء سحري، جدي، وحاسم لنا، لأطفالنا، ولأمتنا. هنا، نُسلح أطفالنا، ومستقبلنا، بالمعرفة لأعظم المعارك: الحياة.

القراءة، الكتابة، الحساب، والتفكير. معلمون ينقلون المعرفة لتلاميذ. هذا يتم وفقًا لبرامج وضعها متخصصون. كل هذا يتم تصميمه، وتنظيمه، وتنفيذه، ومتابعته، وتقييمه من قبل هيئة وطنية. هيئة سياسية بامتياز، لأنها من المفترض أن تعكس اختيارًا وحاجة المجتمع بأكمله. هذا يحدث في أماكن، في مؤسسات تليق بمهمتها، وبالرمز الذي يجب أن تمثله، وبالرسالة التي يُفترض أن تحملها. ويجب أن يكون هذا هو الحال في جميع أنحاء الوطن.

مع المعرفة، الكلمة التي يجب أن ترتبط أكثر بالمدرسة هي “المساواة”. نقيض ذلك هو ببساطة: التمييز، سواء تشكل على أساس المال، أو الخلفية الاجتماعية والثقافية، أو الموقع الجغرافي..

إن التمييز والإقصاء منذ المنطلق، وعدم تكافؤ الفرص منذ البداية، هي أمور مدمرة وغالبًا ما تكون غير قابلة للإصلاح، بل وتتفاقم باستمرار عندما تضرب في مقتل كل الآمال التي تمثلها المدرسة. وهذا بالضبط هو الخطر الذي تستهدف المدرسة العمومية الموحدة إلى تجنبه.

لذلك، “الإصلاح في الغرف المغلقة” في شكل “نشرات” غامضة مليئة بشذرات من لغة “معولمة”، كان يوهم بالنجاعة في السابق ولكنه لم يعد يُبهر أحدًا. أو ربما -فقط – أولئك الذين يرغبون في ذلك لمصلحة شخصية أو بسبب اللامبالاة.

تحتاج المدرسة العمومية المغربية بشكل خاص إلى إعادة ترسيخ أساسياتها. لقد كانت موجودة وأثبتت جدواها. هل يمكننا أن نقترح العودة فقط إلى العقلانية، والانضباط، إلى مفهوم التعليم نفسه، والمبادئ الصارمة للمرفق العمومي: التعليم للجميع في أفضل الظروف الممكنة. مئات الآلاف من النساء والرجال الذين يعتبرون ذلك مهنتهم وشغفهم يطالبون بذلك وهم مستعدون لخوض هذه المعركة النبيلة لإعادة تأهيل المدرسة. هم يعرفون كيفية القيام بذلك، وقد عبروا عن قلقهم وأبدوا حماسهم. إنهم يصمدون أمام كل التحديات. حان الوقت للاستماع إليهم وأخذهم على محمل الجد. المدرسة هم. هم أولاً.

لا الزخارف، ولا الأجهزة الآلية، ولا “الفقاعات” سواء كانت رائدة أم لا، ولا التصنيفات التجارية التافهة، ولا تعويذات التواصل، ولا سرد الأرقام والنسب الموسمية، ولا كثرة الاجتماعات والصور المصاحبة لها، ولا استيراد وصفات زائفة ذات أهداف ربحية، كلها لن تصنع “إصلاحًا”.

مع كل النوايا الحسنة التي يظهرها بعض المسؤولين. الفكرة السيئة تبقى كذلك حتى لو تم استيرادها أو اعتمادها من قبل مؤسسة دولية أو من طرف “خبراء في الخبرة”. هذا ليس حكمًا، بل ملاحظة. المأزق يستمر منذ وقت طويل، وللأسف، لا يتعلق الأمر هنا بإلقاء اللوم على أي شخص. ولكن في المأزق، الهروب إلى الأمام غير مستحب. غالبًا ما يكون هناك جدار. لذا، إذا توقفنا أخيرًا عن التجارب الكافكاوية، سيكون ذلك أكثر من إصلاح: سيكون ثورة حقيقية. (هذه النصيحة الودية والسياسية هي هدية!).

بالنسبة للباقي، بدلًا من أن نبقى- فاقدي الإرادة- إلى جانب سرير متهالك لمدرسة تحتضر، دعونا، وللمرة الأولى، نعود إلى مقاعد الدراسة (بالفكر بالطبع!). ربما نرى المدرسة من الداخل مع أولئك الذين يصنعونها. قد يعطينا ذلك أفكارًا. أخيرًا، فكرة قريبة من الواقع… ومن الممكن.