الهزيتي يكتب: مستقبل المغرب في يد جيش جديد من المواهب الرقمية لكسب معركة عالم التكنولوجيا الحديثة

في خضم التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده العالم، أصبحت المواهب الرقمية أحد العناصر الأساسية لتأمين التنافسية الاقتصادية والاجتماعية.

لم يعد الأمر يقتصر على تطوير البنيات التحتية أو رقمنة الخدمات، بل تعدى ذلك ليصبح تأهيل الكفاءات الرقمية أولوية استراتيجية على المستويين الوطني والدولي. وتشير الدراسات العالمية إلى أن هناك نقصا حادا في المهارات الرقمية، حيث يتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي أن 54% من المستخدمين في القطاعين العام والخاص سيحتاجون إلى إعادة تأهيل بحلول سنة 2025.

وتشير تقارير أخرى إلى أن العالم قد يفتقد إلى 85 مليون مستخدم مؤهل في المجال الرقمي في أفق 2030 مما قد يؤدي إلى خسائر تقدر بـ 8.5 تريليون دولار. هذا النقص لا يقتصر فقط على عدد الكفاءات، بل يمتد إلى النوع حيث إن النساء لا يمثلن سوى 28% من العاملين في قطاع التكنولوجيا على الصعيد العالمي رغم كونهن يمثلن نصف سكان العالم مما يعكس فجوة كبيرة تحد من تنوع الأفكار والابتكار داخل المؤسسات.

ومن بين أبرز التحديات التي تواجهها المؤسسات في هذا المجال، نذكر صعوبة مواكبة المهارات المطلوبة للتطور التكنولوجي السريع، وهو ما يدفع العديد من الشركات إلى تكثيف استثماراتها في برامج التدريب والتطوير المهني. فحسب تقرير شركة ديلويت فإن 85% من المؤسسات أصبحت ترى في التكوين المستمر ضرورة لمواكبة التحولات الرقمية.

كما أن العمل عن بعد فتح الباب أمام سوق دولي للمواهب، مما زاد من حدة المنافسة بين المؤسسات على استقطاب أفضل الكفاءات ورفع التحدي أمام الحكومات لضمان استقرار مواطنيها في الداخل من خلال بيئات عمل مرنة وآمنة ومجزية.

وفيما تسعى الدول المتقدمة إلى تأمين استقرارها الرقمي عبر سياسات استباقية لتكوين واستبقاء المهارات، فإن الدول النامية تعاني من اختلالات واضحة على مستوى العرض والطلب في سوق الشغل الرقمي.

ويبرز المغرب ضمن هذه الدول، وهو يواجه تحديات عدة تتمثل في ضعف المنظومة التكوينية وهجرة الكفاءات وقصور في البنية التحتية الرقمية إضافة إلى تفاوتات مجالية واجتماعية تعمق الفجوة الرقمية.

فرغم تخرج حوالي 10,000 طالب سنويا في التخصصات الرقمية إلا أن السوق يحتاج إلى ما لا يقل عن 25,000 متخصص سنويًا وهو ما يخلق عجزا مزمنا في تلبية الحاجيات الوطنية.

وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما نجد أن جزءا كبيرا من هؤلاء الخريجين يفضلون الهجرة نحو الخارج بحثًا عن ظروف أفضل وأجور أعلى
من جانب آخر، تؤكد تقارير وطنية عديدة أن النساء يشكلن فقط ربع القوة العاملة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المغرب، رغم تفوقهن العددي في نسب النجاح الجامعي مما يكشف عن وجود حواجز ثقافية وهيكلية تحول دون انخراطهن الفعلي في الاقتصاد الرقمي.

كما أن المنظومة التعليمية لا تزال تركز على المعرفة النظرية بشكل كبير، مما يضعف قدرة الخريجين على التفاعل مع متطلبات السوق التي أصبحت تطلب مهارات عملية دقيقة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والأمن السيبراني والحوسبة السحابية
غير أن الصورة ليست قاتمة بالكامل، إذ تشهد المملكة خلال السنوات الأخيرة دينامية جديدة تروم تجاوز هذه التحديات من خلال تبني سياسات ومبادرات طموحة، لعل أبرزها استراتيجية “المغرب الرقمي 2030” التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى قطب رقمي إقليمي.

وتشمل هذه الاستراتيجية محاور متعددة من أبرزها تطوير المواهب الرقمية عبر التكوين الأساسي وإعادة التأهيل المهني وجلب الكفاءات الأجنبية. كما تم إطلاق برامج كبرى مثل JobInTech وبرامج الأكاديمية الرقمية لتقوية القدرات العملية للشباب وتسهيل إدماجهم في سوق الشغل.

وقد بدأت بعض هذه البرامج بالفعل في تحقيق نتائج مشجعة من حيث نسبة الإدماج المهني حيث تميزت السنوات الأخيرة أيضا بتوقيع اتفاقيات بين الوزارات المعنية والجامعات ومؤسسات التكوين لتوسيع عرض التكوين الرقمي. إذ تم اعتماد أكثر من 180 برنامجا جديدا في 12 جامعة وطنية تغطي مجالات واعدة كتحليل البيانات والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. كما تم إطلاق مدارس برمجة حديثة كمدرسة “يوكود” في الناظور ومدرسة “أحمد الحنصالي” الرقمية في بني ملال، مما يعكس رغبة الدولة في توزيع فرص التكوين الجيد في المجال الرقمي على مختلف جهات المملكة.

وتعمل وزارة الانتقال الرقمي كذلك على تمكين الشباب من التكوين عبر الإنترنت من خلال شراكات مع شركات عالمية توفر محتوى تعليمي مجاني ومعتمد في تقنيات البرمجة السحابية والذكاء الاصطناعي وقواعد البيانات وغيرها وترافق هذه الدينامية التكوينية إرادة حكومية واضحة لتعزيز الابتكار الرقمي ودعم ترحيل الخدمات، حيث ارتفعت صادرات المغرب من خدمات تكنولوجيا المعلومات إلى ما يفوق 1.8 مليار دولار ووفرت أكثر من 140 ألف منصب شغل.

وتؤكد السلطات أن المغرب بات يحتل المرتبة الثانية إفريقيا في هذا المجال، مما يشكل فرصة لتثمين الكفاءات الوطنية وتشجيع بروز شركات رقمية محلية تنافس على الصعيد الدولي
ولتعزيز هذه الدينامية، حددت وثائق مرجعية كالنموذج التنموي الجديد مجموعة من التوصيات لإعادة هيكلة المنظومة الرقمية تشمل تطوير البنية التحتية وتحديث الإطار القانوني ورقمنة الإدارة العمومية وتشجيع المقاولات الناشئة.

وأوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بدوره بجعل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا السحابية أولوية وطنية من خلال دعم البحث العلمي وتكوين الكفاءات وتوفير بيئة ملائمة للاستثمار. كما حذر المجلس الأعلى للحسابات من التحديات التي تعيق التحول الرقمي مثل بطء التشغيل البيني وضعف الأطر المرجعية لحماية البيانات وتدبير نظم المعلومات.

أما على المستوى الدولي، فقد أكدت مؤسسات كمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك الدولي على ضرورة تعزيز البنية التحتية الرقمية وتحديث القوانين وتشجيع الاستثمار في الابتكار وريادة الأعمال.

وشددت على أهمية تطوير المهارات الرقمية كشرط أساسي للاندماج في الاقتصاد العالمي الرقمي. وتعمل الحكومة المغربية على تفعيل هذه التوصيات ضمن برنامجها الحكومي الذي يضع تقليص الفجوة الرقمية وتعميم الإنترنت وتعزيز الكفاءات الرقمية ضمن أولوياتها. إذ تؤكد التصريحات الرسمية أن الرقمنة لم تعد خيارا، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق الشمول الاجتماعي وتسريع النمو الاقتصادي ورفع كفاءة الخدمات العمومية.

وفي الختام، فإن تأهيل وتثمين المواهب الرقمية في المغرب يمثل اليوم حجر الزاوية في أي مسار نحو التنمية الشاملة والمستدامة. فالعنصر البشري المؤهل والقادر على الإبداع الرقمي هو مفتاح نجاح أي تحول اقتصادي أو إداري. وإذا ما تم استثمار هذه الطاقات بشكل سليم، فإن المغرب قادر على التحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى منتج ومصدر للحلول الرقمية التي تخدم الداخل وتنافس في الخارج