الهزيتي يكتب: التقائية السياسات.. معضلة المغرب من أجل سياسات عمومية متماسكة

بقلم: الهزيتي محمد انوار، خبير في التنمية الترابية وعضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية

يواجه المغرب، وهو دولة تسعى جاهدة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، تحديًا مستمرًا يتمثل في التقائية السياسات. فرغم أهدافه الطموحة لتحسين الحكامة، والارتقاء بقطاعاته التنموية، ومعالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه لا يزال يواجه صعوبة في مواءمة سياساته العمومية وتنسيقها بفعالية. ويحول هذا التباين في تنفيذ السياسات دون تحقيق العديد من الأهداف الاستراتيجية، ويعيق التقدم، لا سيما في المجالات التي يُعد فيها التنسيق بين القطاعات أمرًا بالغ الأهمية.

في عام 2021، اتخذ المغرب خطوة مهمة بإنشاء وزارة الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية. وقد عكست هذه الخطوة إدراك المملكة لضرورة تبسيط وتنسيق السياسات المتنوعة المعمول بها في مختلف القطاعات الحكومية.

وتتمثل مهمة الوزارة في تعزيز التنسيق بين المؤسسات العمومية، وضمان توافق الإجراءات التي تتخذها كل وزارة مع جهود الوزارات الأخرى. من خلال تهيئة بيئة مؤسساتية متماسكة، تهدف الحكومة إلى دفع البلاد قدمًا في اتجاه موحد. ووفقًا لذلك، ينصبّ التركيز على تعزيز التنمية المستدامة مع إدارة التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء. ومع ذلك، ورغم هذه الابتكارات المؤسساتية، فقد ثبت أن التقارب الحقيقي بعيد المنال، ولا يزال تكامل السياسات وانسجامها مصدر قلق بالغ.

كما سلّطت منظمات دولية، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، الضوء على أهمية التقائية السياسات. ولطالما شدد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على ضرورة قيام الدول، بما فيها المغرب، ببناء إطارات مؤسساتية متينة تدمج مختلف القطاعات لتحقيق أهداف التنمية الشاملة. وبالنسبة للمغرب، يعني هذا تعزيز التنسيق ليس فقط بين الهيئات الحكومية، ولكن أيضًا بين أصحاب المصلحة من القطاعين العام والخاص، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحسين فعالية تقديم الخدمات العمومية.

ومع ذلك، ورغم هذه الاجتهادات المؤسساتية والتوصيات العالمية، يواجه المغرب العديد من العوائق التي لا تزال تقوّض التقائية السياسات. ومن أهم هذه العوائق التشتت الهيكلي المؤسساتي داخل الإدارة المغربية. فعلى المستوى الوطني، غالبًا ما تعمل المؤسسات الحكومية بمعزل عن بعضها البعض، ونتيجة لذلك، لا تكون السياسات الرامية إلى معالجة الإشكاليات المتشابهة عبر القطاعات متناسقة دائمًا.

قد يؤدي هذا إلى إجراءات متضاربة أو متكررة، مما يُضعف الفعالية الإجمالية للمبادرات الحكومية. علاوة على ذلك، على المستوى المحلي، تُحدّ مركزية صنع القرار من قدرة الجماعات الترابية على تكييف السياسات الوطنية مع الاحتياجات الخاصة لساكنتها. ويؤدي هذا الضعف في سلطة الجماعات الترابية إلى اتباع نهج واحد يناسب الجميع، لا يُعالج دائمًا التحديات الخاصة التي تواجهها الساكنة المحلية.

من التحديات الحاسمة الأخرى التي تواجه جهود المغرب لتحقيق التقائية السياسات التفاوت في تخصيص الموارد. فالتفاوتات الاقتصادية بين المناطق الحضرية والقروية، بالإضافة إلى التفاوتات الترابية في الوصول إلى الموارد، تُشكّل عقبات كبيرة أمام التنفيذ المتساوي للسياسات العمومية. على سبيل المثال، تحظى البرامج المُنفّذة في المناطق الأكثر نموا بتمويل واهتمام أكبر، بينما غالبًا ما تُهمَل المناطق القروية. وتساهم هذه التفاوتات في صعوبة ضمان تطبيق السياسات الوطنية بفعالية في جميع أنحاء البلاد، وكذلك في اتساع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية.

يُعدّ تداخل السياسات مشكلة أخرى تُفاقم تعقيد تحقيق الالتقائية. فكثيرًا ما تُنفّذ وزارات وهيئات حكومية مُتعددة برامج مُتشابهة تُعالج القضايا نفسها، مثل الحد من الفقر أو إصلاح التعليم، دون تنسيق مناسب. هذا التكرار لا يُهدر موارد قيّمة فحسب، بل يُؤدي أيضًا إلى إرباك وانعدام الكفاءة، حيث يرتبك المواطنون والجماعات الترابية في التعامل مع هذه المبادرات المتوازية. علاوة على ذلك، يُمكن أن يُعيق هذا التداخل فعالية أنظمة الرصد والتقييم، وهي أنظمة بالغة الأهمية لتقييم أثر السياسات وضمان المساءلة في النفقات العمومية.

وعلى الرغم من هذه التحديات المستمرة، بذل المغرب جهودًا عديدة للمضي قدمًا نحو نهج أكثر توحيدًا في صنع السياسات. ومن هذه المبادرات الشروع في وضع استراتيجية وطنية للالتقائية، مصمم لدمج مختلف السياسات والاستراتيجيات التي تنتهجها مختلف الجهات الحكومية. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى مواءمة الأولويات الوطنية مع تنفيذ السياسات العمومية، مما يُسهّل تحقيق اتساق أكبر في صنع القرار. كما تعمل الحكومة على تحسين التنسيق بين الوزارات، مع التركيز بشكل خاص على قطاعات مثل الصحة والتعليم والتنمية الاقتصادية.
من جهة أخرى، تُتيح الإصلاحات الحالية المتعلقة باللامركزية والجهوية الموسعة، التي أُدرجت في دستور المغرب لعام 2011، سبيلًا آخر لتحسين التقائية السياسات. وتمنح هذه الإصلاحات مزيدًا من السلطة والاستقلالية للمجالس الجهوية، المكلفة الآن بإدارة التنمية الجهوية. ومن خلال تقوية لامركزية صنع القرار، تأمل الدولة في تعزيز سياسات أكثر ملاءمة للاحتياجات المحلية، ومعالجة التحديات المتميزة التي تواجهها مختلف المناطق. ومن الناحية النظرية، يمكن لهذه الجهود الرامية إلى تعزيز استقلالية الجماعات الترابية أن تدعم تقارب السياسات على المستوى الترابي، مما يضمن استجابتها بشكل أفضل للاحتياجات المتنوعة المحددة للساكنة المغربية.
ومن أجل المضي قدمًا، يجب على المغرب مواصلة تعزيز قدراته المؤسساتية وإعادة هندسة اختصاصات مختلف مؤسسات السلطة التنفيذية بما فيها تقييم ورش اللاتمركز الإداري ومدى تناسبه مع التطورات الأخيرة التي عرفها المغرب والعالم. ويشمل ذلك الاستثمار في الموارد البشرية، وتبسيط المساطر الإدارية ورقمنتها، ونشر قيم الابتكار وتعزيز ثقافة التعاون بين الوزارات والجماعات الترابية والجهات المعنية الرئيسية الأخرى. ومن الضروري أيضًا أن تُشرك الحكومة مجموعات متنوعة، بما في ذلك المجتمع المدني والقطاع الخاص، في عملية صنع السياسات لضمان مراعاة جميع وجهات النظر علما أن الإشراك هو مبدأ دستوري. ولا تقتصر التقائية السياسات على الحكومة وحدها؛ بل يتطلب مساهمة جميع قطاعات المجتمع.
لضمان فعالية تنفيذ السياسات، يجب على المغرب أيضًا تعزيز أنظمة الرصد والتقييم. وسيسمح ذلك بتتبع التقدم وتحديد التحديات مع تطور السياسات. يُعدّ وجود نظام قوي للرقابة والافتحاص، إلى جانب تقارير شفافة، أمرًا ضروريًا لضمان توافق إجراءات الحكومة مع أهداف التنمية الوطنية واستخدام الموارد العمومية بكفاءة.

في الختام، على الرغم من أن المغرب قد اتخذ خطوات مهمة لمعالجة تحديات التقائية السياسات، إلا أنه لا يزال هناك الكثير من العمل. ويتطلب تحقيق تقارب حقيقي إصلاحات مؤسساتية جريئة مستمرة، وتعزيز التعاون بين القطاعات، والتزامًا طويل الأمد بضمان انسجام وتكامل السياسات العمومية ومواءمتها. فقط من خلال التغلب على هذه التحديات، يمكن للمغرب إنجاح استراتيجياته التنموية وتمهيد الطريق لمستقبل أكثر ازدهارًا وشمولًا ومرونة لجميع مواطنيه.