الهزيتي يكتب.. الجماعات الترابية تكافح لتحقيق أهدافها: بين أحلام اللامركزية وواقعها

بقلم: الهزيتي محمد انوار، خبير في التنمية الترابية وعضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية

على مدى العقدين الماضيين، سعى المغرب إلى تحقيق رؤية لامركزية أعمق، تهدف إلى إنشاء جماعات ترابية أكثر استجابة وتمكينًا. وعزز دستور عام 2011 هذا الطموح من خلال إرساء نموذج الجهوية المتقدمة – وهو نموذج يهدف إلى تفويض الصلاحيات السياسية والإدارية والمالية للجماعات الترابية بمختلف مستوياتها. ومع ذلك، وبعد أكثر من عقد من الزمان، يرسم الواقع على أرض الواقع صورة أكثر تعقيدًا. تواجه الجماعات الترابية المغربية تحديات هيكلية ومؤسساتية ومالية واجتماعية وسياسية تحد من قدرتها على العمل كمحرك حقيقي للتنمية.

طموحات دستورية، عوائق مؤسساتية
شكّل دستور عام 2011 نقطة تحول في الحكامة وهذا ما جعل بعض الباحثين يصفونه بدستور الحقوق والحكامة. فقد منح الجماعات الترابية – الجماعات والأقاليم والعمالات والجهات – وضعًا قانونيًا واستقلالًا إداريًا وصلاحيات جديدة. وكان الهدف معالجة أوجه عدم المساواة بين الجهات، وتعزيز المشاركة الديمقراطية، وتقريب الخدمات من المواطنين.
ومع ذلك، ورغم الإطار القانوني الطموح، فقد أدى الجمود المؤسساتي إلى إبطاء التنفيذ. وقد تأخر إصدار العديد من النصوص التنظيمية اللازمة لتفعيل هذه الإصلاحات أو لا تزال غير مكتملة. علاوة على ذلك، تواصل السلطة المركزية فرض رقابة مشددة على عملية صنع القرار، مما يحد من نطاق عمل الهيئات المنتخبة محليًا.
ووفقًا لتقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عام 2022، فإن “الجهوية المتقدمة لا تزال وعدًا أكثر منها ممارسة”، حيث لا تزال العديد من الجماعات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على توجيهات المركز في اتخاذ القرارات الرئيسية، لا سيما في قطاعات مثل الصحة والتعليم والتخطيط العمراني.

التبعية المالية والاستقلالية المحدودة
تُعد الهشاشة المالية من أهم التحديات التي تواجهها الجماعات الترابية. فعلى الرغم من أن القانون يسمح للجماعات الترابية بإمكانيات التمويل الذاتي من خلال الضرائب والرسوم والخدمات المحلية، إلا أن هذه الإيرادات، في الواقع العملي، غير كافية وتدار بشكل سيء.
في عام 2023، كشف المجلس الأعلى للحسابات أن أكثر من 65٪ من الجماعات تعتمد على التحويلات من الحكومة المركزية لتمويل عملياتها. ويفشل العديد من الجماعات في استغلال قاعدتها الضريبية المحلية على أكمل وجه بسبب تقادم الأنظمة القانونية، وضعف آليات التحصيل، والاقتصاد الغير المهيكل. على سبيل المثال، غالبًا ما تستند مداخيل الأملاك الجماعية، وهي مصدر رئيسي للدخل المحلي، إلى سجلات عقارية قديمة، مما يؤدي إلى نقص في الضرائب وخسارة في الإيرادات.
يُقوّض غياب الاستقلال المالي القدرة على التخطيط ويُجبر الجماعات على تأخير أو التخلي عن مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاجتماعية. وتقع العديد من المجالس المحلية في دوامة الديون أو تجميد الميزانية، مما يؤثر بشكل مباشر على خدمات مثل جمع النفايات، وصيانة الطرق، والإنارة العمومية.

الكفاءات البشرية ونقاط الضعف الإدارية
حتى عند توفر التمويل، غالبًا ما تفتقر الجماعات الترابية إلى الخبرة التقنية والكفاءات المؤهلة لتصميم المشاريع وتنفيذها بفعالية. وتعاني الجماعات الصغيرة وخاصة القروية منها، على وجه الخصوص، من نقص حاد في المهندسين، ومخططي المدن، والمتخصصين في التدبير المالي، ومتخصصي تكنولوجيا المعلومات.
وقد وجدت دراسة عام 2023 أن 41٪ من موظفي الجماعات لم يتلقوا أي تكوين رسمي في السنوات الخمس الماضية. بالإضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 60% من الموظفين هم إداريون أو عمال مؤقتين، مع نسبة ضئيلة فقط مؤهلة للمهام التخصصية أو التقنية. ويؤدي هذا النقص في الكفاءات البشرية إلى إدارة غير فعّالة، وسوء تقديم الخدمات، والتعرض لسوء التدبير.

الحكامة والفساد وانعدام الشفافية
لا تزال قضايا سوء التدبير والمحسوبية وضعف المساءلة تُؤرق المؤسسات الترابية. فبينما يُفترض أن تُمثل المجالس المنتخبة مصالح السكان المحليين، فإن التنافسات السياسية والأجندات الشخصية وانعدام الشفافية غالبًا ما تُقوّض عملية صنع القرار.
غالبًا ما يُعرب المواطنون عن إحباطهم من أداء ممثليهم المحليين. ففي استطلاع وطني أجرته منظمة الشفافية المغربية عام 2023، قال 23% فقط من المشاركين إنهم يثقون في قدرة جماعاتهم على إدارة المالية العمومية بمسؤولية. ويعزز ذلك الحالات التي كشفت عنها المفتشية العامة للإدارة الترابية والمجلس الأعلى للحسابات، والتي كشفت عن عقود غير قانونية، وميزانيات مُضخّمة، وأشغال عمومية لم تُنجز في عدة جماعات. كما أن الفساد شمل أيضا الصفقات العمومية والتوظيفات وهذا ما يثبط الاستثمار الخاص ومشاركة المواطنين، مما يؤدي إلى ترسيخ الشعور بالإحباط وانعدام الثقة.
التطوير الزائد في المناطق الحضرية والإهمال في المناطق القروية
أدى التوسع الحضري السريع في المغرب إلى خلق نظام ثنائي السرعة بين المدن المكتظة والمناطق القروية التي تعاني الهشاشة. تكافح المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة وأكادير لمواكبة متطلبات النقل والسكن بأسعار معقولة وإدارة النفايات والتزويد بالماء الصالح للشرب. في الوقت نفسه، تفتقر العديد من الجماعات القروية إلى البنية التحتية الأساسية مثل الطرق المعبدة وشبكات الصرف الصحي والوصول إلى وسائل النقل العمومي.
أفادت المندوبية السامية للتخطيط في عام 2022 أن 40% من الساكنة القروية لا يزالون يضطرون إلى قطع مسافة تزيد عن 5 كيلومترات للوصول إلى مرفق صحي، وأن 35% من أطفال العالم القروي يلتحقون بالمدارس في مبانٍ تُعتبر غير آمنة أو سيئة التجهيز. من المتوقع أن تحاول الجماعات معالجة هذه الفجوات، ولكن بدون تمويل ذاتي أو صلاحيات كافية، يبقى تأثيرها ضئيلاً.

المشاركة السياسية والانخراط الديمقراطي
إذا كانت اللامركزية تهدف بعد دستور 2011 إلى تعزيز الديمقراطية على المستوى الشعبي، فلا تزال المشاركة السياسية منخفضة، لا سيما بين الشباب والنساء. في الانتخابات الجماعية لعام 2021، لم تتجاوز نسبة المشاركة 50٪، وسجلت عدة مناطق معدلات مشاركة أقل من 40٪. وقد أعرب العديد من الناخبين عن خيبة أملهم، مشيرين إلى أن الانتخابات الجماعية لا تُحدث فرقًا يُذكر في حياتهم اليومية.
شهد تمثيل المرأة في مجالس الجماعات الترابية تحسنًا طفيفًا بفضل نظام الحصص، لكن المناصب القيادية لا تزال يهيمن عليها الرجال. في عام 2022، ترأست النساء مجلسا فقط من أصل 12 مجلسًا جهويًا في المغرب.
بالإضافة إلى ذلك، تشكو منظمات المجتمع المدني من نقص آليات التشاور والمشاركة وجلسات التشاور العمومي وأدوات إشراك المواطنين نادرة، وعندما تُعقد، غالبًا ما تكون رمزية.

المضي قدمًا: ما العمل؟
إن إنجاح ورش اللامركزية والجهوية المتقدمة وجعله الأداة الرئيسة للتنمية الشاملة يتطلب 5 شروط استعجالية:
• تقوية اللامركزية المالية: منح الجماعات الترابية مزيدًا من الصلاحيات لتحصيل الضرائب وإدارتها، مع زيادة الشفافية والتمويل القائم على الأداء.
• بناء القدرات: الاستثمار في تكوين وتوظيف موظفين مؤهلين، لا سيما في مجالات التخطيط والتمويل والخدمات الرقمية.
• إصلاح الحكامة: تعزيز المساءلة من خلال عمليات التدقيق العام، ورقابة المواطنين، وآليات مكافحة الفساد.
• التخطيط الحضري الذكي: استخدام الأدوات والبيانات الرقمية لإدارة النمو الحضري وتحسين الربط القروي.
• المشاركة المدنية: تشجيع مشاركة الشباب والنساء في السياسة الترابية، ومأسسة الميزانيات التشاركية والتشاور.

وكختام، لا يزال طريق المغرب نحو اللامركزية الفعالة طويلًا. فبينما يوجد الإطار القانوني والذي يجب إعادة النظر فيه وخاصة في مجال هندية الاختصاصات، فإن تحويل الجماعات الترابية إلى مؤسسات فاعلة في التنمية لا يتطلب إصلاحات تقنية فحسب، بل يتطلب أيضًا إرادة سياسية، وتغييرًا ثقافيًا، واستثمارًا حقيقيًا في القواعد الشعبية. وسيحدد نجاح الجماعات الترابية في نهاية المطاف ما إذا كانت تنمية المغرب شاملة حقًا – أم مركزية فحسب.