تعتبر دراسة الحالة الإخوانية في قطر من أصعب المهام البحثية التي قد تواجه المتخصصين في شؤون الجماعة، وذلك بالنظر إلى ندرة المراجع التي أرّخت لتاريخ بروز أولى الآثار الإخوانية على الأراضي القطرية.
ساهم في هذا الإشكال المنهجي أنّ “الإخوان القطريين” لم يفرجوا، إلى غاية كتابة هذه الأسطر، عن مذكراتهم التي تؤرخ لتجربة الجماعة والتي من شأنها أن تكشف عن العديد من مناطق الظل في تاريخ علاقة الإخوان المسلمين بدولة قطر.
مصدر آخر من مصادر صعوبة تلمّس خيوط التجربة الإخوانية في قطر يعود بالأساس إلى غياب الرواية الأمنية، كما هو الحال في بعض الدول كمصر والإمارات والبحرين والمملكة العربية السعودية، والتي كانت مصدراً مهماً لرسم إستراتيجية التنظيم في هذه الدول. هذه الرواية تغيب تماماً من خلال رصدنا لتجربة قطر مع الإخوان.
السياقات التاريخية للإنزال الإخواني
تاريخياً، وعلى خطى باقي تجارب الإخوان في بلدان الخليج العربي، ستشهد فترة ما بعد “محنة 1954″، هروب جحافل الإخوان من القبضة الأمنية للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر باتجاه باقي الدول العربية ليستقر المقام بعدد كبير منهم في دولة قطر. والتي ستعمل على استغلال الإخوان في مواجهة المشروع القومي الناصري، وكذا الدعوات السياسية بإقامة أنظمة جمهورية يمكن أن تهدّد البنية السياسية للنظام القطري.
في سياق آخر، ستسجل فترة السبعينيات ونهاية الثمانينيات موجة فرار للإخوان السوريين إلى قطر بعد المواجهات الدموية مع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والتي أعقبت العمليات الإرهابية التي قام بها تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سوريا والتي دفعت بالنظام السوري إلى إحكام قبضته الأمنية على الإخوان.
سيلقى الخطاب الإخواني تجاوباً كبيراً مع البيئة القطرية، والتي كانت تُعتبر بيئة خاماً، لم تطلها رياح الحداثة والأفكار السياسية التي واكبت نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز نظام عالمي جديد بنظام الثنائية القطبية. هذه البيئة المحلية سيعمل على استغلالها الإخوان بذكاء كبير، حيث سينطلق الإخوان، وعلى رأسهم يوسف القرضاوي وأحمد العسال، في التنزيل العملي لمشروعهم التمكيني من خلال العمل على الاستيلاء على المواقع الدعوية في كبريات المساجد، والنجاح في ربط علاقات متميزة مع الأسرة الحاكمة في قطر، ليتمكنوا، بعد ذلك، من الإشراف على إنشاء مجموعة من الكليات الشرعية؛ حيث ساهم القرضاوي في إنشاء الكلية الشرعية في قطر وقام شخصياً بوضع مناهجها.
تمكن الإخوان من الوصول إلى درجة من الاختراق وصلت إلى حد النجاح في وضع المناهج التعليمية والتربوية، واستعانوا في ذلك على وجوه إخوانية، تم جلبها من مصر، وقاموا بزرعها في أهم مفاصل الدولة، مستغلين ثقة حاكم قطر آنذاك الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.
واكبت مرحلة الانتشار والاختراق، قيام قيادات الإخوان بتأطير بعض الشباب القطري الذي تبنّى الدعوة الإخوانية من خلال حقنهم بتطرف كتب إخوانية وعلى رأسها كتابات أبي الأعلى المودودي وسيد قطب وخصوصاً تفسير الأخير للقرآن الكريم “في ظلال القرآن” و”معالم في الطريق”، فبدأ الشباب بإقامة معسكرات ورحلات صحراوية كان يحاضر فيها قيادات إخوانية على رأسها القرضاوي.
يوسف القرضاوي شيخ المشروع
لكَ يا إِمامِي يا أعزَّ معلمِ يا حاملَ المصباحِ في الزمنِ العَمِي
يـــا مرشدَ الدنيا لنَهجِ محمـدِ يا نفحةً من جيلِ دارِ الأرقــمِ
أُهدِيـكَ نفسي في قصائدَ صُغتُها تَهدي وتَرجُم فهيَ أختُ الأنْجُمِ
حَسَبوك مِتَّ وأنتَ حيٌّ خــالد ما ماتَ غيرُ المستبدِّ المُجـــرِمِ
بعد هذه الأبيات، التي قالها يوسف القرضاوي في رثاء حسن البنا، والتي تُصور الارتباط الروحي والعقدي بإمامه وملهمه حسن البنا، حمل القرضاوي دعوة الإخوان معه إلى قطر وكله طموح إلى تحقيق نبوءة المرشد في إرساء دعائم أولى المعاقل الإخوانية والتي ستعتبر لاحقاً مركزاً للتوجيه والتنظير في علاقتها بفروع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
وصل يوسف القرضاوي إلى قطر يوم 12 أيلول (سبتمبر) العام 1961، بطلب من الشيخ عبد الله بن تركي المسؤول عن العلوم الشرعية في قطر، ورأى فيها فضاء مناسباً لنشر الدعوة الإخوانية؛ حيث يقول في مذكراته “ابن القرية والكتاب” (ج2 ص 234): “كانت قطر تخطو أولى الخطوات في سلم الترقي الحضاري”. ويمكن الجزم بأنّ أول الإرهاصات التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين في قطر تأسست على يد كل من يوسف القرضاوي وأحمد العسال.
وكما هي طبيعة الإخوان، فإنّهم يستغلون جميع الظروف من أجل العمل على نشر الفكر الإخواني رغم التقية التي يحاولون من خلالها التعبير على أنهم يخدمون في ظل توجيهات ولاة الأمر بالبلد الذي يستضيفهم. وهنا وجب التنبيه إلى ما طرحه حسن البنا في رسائله (ص 136) بالقول: “ويخطئ من يظن أنّ الإخوان المسلمين يعملون لحساب هيئة من الهيئات أو يعتمدون على جماعة من الجماعات، فالإخوان المسلمون يعملون لغايتهم على هدى من ربهم”.
لقد ترسخت لدى الباحث في تاريخ “الجماعة” أن الإخوان لا يرضون بمجرد العمل الدعوي فحسب؛ بل ويتجاوزون ذلك إلى محاولة نشر تطرفهم الفكري وعقيدتهم السياسية بين المجتمعات التي تحتضنهم. وهنا نحيل إلى ما قاله يوسف القرضاوي في مذكراته، بعدما سُمح له بالسفر إلى قطر من أجل التدريس فيقول: “وقد قال لي الأستاذ محمد مرسي مدير مدرسة الدوحة الثانوية حينما لقيته في الصيف المقبل بعد رفع الحظر عن سفري: من الخير أنك تأخرت هذه السنة؛ لأنك ستأتي هذه السنة إلى قطر مديراً للمعهد الديني، تملك قرارك بدون معارضة ولا تعطيل، ولو جئت في العام الماضي، لكنت وكيلاً للمعهد، وكنت ستتعب مع المدير الموجود”. ج2 ص 236/237.
عُيّن القرضاوي، على إثر ذلك، مديراً للمعهد الديني الثانوي بالدوحة، ليبدأ في نسج علاقات واسعة ومتشعبة مع أطر وقيادات قطرية في المجالات الحساسة والتي لها تأثير مباشر على المجتمع القطري. وفي هذا السياق، التقى القرضاوي بكل من الشيخ علي بن سعود بن ثاني آل ثاني، والشيخ محمد بن عبد العزيز المانع كبير علماء قطر ومدير المعارف سابقاً بالمملكة العربية السعودية، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود قاضي المحكمة الشرعية (ص 252). ويضيف القرضاوي في (ص 254) من نفس الجزء: “وكان لا بد لنا أن نزور الرجل الأول المسؤول عن التعليم في قطر ووزير المعارف وهو الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد ونائب الحاكم الشيخ خليفة بن حمد وابن عم حاكم قطر. وهو الوزير الوحيد في حكومة قطر، مع الشيخ خليفة، الذي كان يعتبر وزيراً للمالية أيضاً”.
وعن أهمية وزارة المعارف ودورها في إنجاح خطة الاختراق والانتشار في المجتمع القطري يقول القرضاوي: “كانت وزارة المعارف أهم وزارة في البلد، وأكثرها موظفين، وهم يكونون قوة اقتصادية مهمة…المهم أن حركة الحياة في الدوحة كانت في أغلبها مرتبطة بوزارة المعارف وموظفيها” (ص 254).
عمل القرضاوي منذ اليوم الأول على التقرب من أفراد الأسرة الحاكمة في قطر ووجد ضالته في الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني، وهنا يقول القرضاوي في مذكراته (ج2 ص 245): “والرجل الثاني الذي عرفته من أهل قطر: هو الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني الذي يزور مصر في الصيف…وزرته في فندق شبرد ــ على ما أذكر ــ وأهديت إليه كتابيّ “الحلال والحرام” و”العبادة في الإسلام”.
سينجح القرضاوي بربط الاتصال بالشيخ أحمد بن علي آل ثاني حاكم قطر وذلك عن طريق أحد الإخوان المقربين له ويدعى عبد البديع صقر وهو من الإخوان المعروفين في مصر وكان على صلة طيبة بحسن البنا وقد عمل فترة بالمركز العام للإخوان (ج2 ص 263). وجاءت ظروف التحاق عبد البديع صقر بقطر في ظروف يرويها القرضاوي بالقول: “كان الوجيه قاسم درويش هو المسؤول عن المعارف، وكانت له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب، فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف. فرشح له في أول الأمر الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفاً خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصاً للقيام بالمهمة فرشحوا له الأستاذ عبد البديع (سافر إلى قطر سنة 1954). وقد انضم إلى عبد البديع بعد ذلك عدد من الإخوان الذين فروا من جحيم عبدالناصر بمصر، فمنهم من ذهب إلى دمشق، ومنهم من ذهب إلى السودان، وغيرها. ومن هذه البلاد جاؤوا إلى قطر. كان ممن جاؤوا من دمشق: عز الدين ابراهيم، وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي، وممن جاؤوا من السودان: كمال ناجي، وعلي شحاتة، ومصطفى جبر. (ج2 ص 263/264).
وعن حيثيات اللقاء بالشيخ أحمد بن علي آل ثاني حاكم قطر يقول القرضاوي: “اقترح علينا أخونا الأستاذ عبد البديع صقر: المقرب من الشيخ أحمد بن علي آل ثاني حاكم قطر، أن نزور الحاكم، فليس لائقاً برجال في منزلة الشيخ عبد المعز والشيخ القرضاوي أن يجيئوا إلى قطر للعمل فيها، ولا يزورون حاكمها…وكان لقاء طيباً استقبلنا فيه الرجل استقبالاً حسناً، ورحب بنا في بلدنا الثاني، وتحدث معنا حديثاً كله مودة ومحبة” (ج2 ص 262).
وفي اعتراف خبيث بالرغبة في التحكم في مفاصل الدولة القطرية الفتية يشير القرضاوي إلى فكرة لا تخلو من دهاء إخواني يكشف طبيعة مشروعهم بقطر فيقول: “وكان الشيخ قاسم درويش ومعه عبد البديع صقر وغيره من جهاز إدارة المعارف: حريصين على أن لا يعينوا إلا مسلمين متدينين (ص 264).
درس الإخوان البيئة القطرية من جميع جوانبها: القبلية والاجتماعية والجغرافية والدينية والاقتصادية، فعملوا على تهيئة القواعد المادية القادرة على حمل المشروع الإخواني.
وعن ظروف التكوين في المعهد، سنعاين أنها لا تحيد بتاتاً عن المنهج الإخواني الذي أرساه حسن البنا، وهنا يقول القرضاوي: “وكان الطلاب (في المعهد الديني الذي يشرف عليه القرضاوي) هم الذين يتناوبون حكم المعهد داخلياً، عن طريق نظام الأسر. فهناك أسرة أبي بكر الصديق، وأسرة عمر بن الخطاب، وأسرة صلاح الدين الأيوبي، وأسرة أحمد بن حنبل”. ص 277
لقد نجح القرضاوي، من خلال معهده، في الدمج بين التلقين الديني والتوجيه السياسي وفق رؤية إستراتيجية لا تخلو من ذكاء وبعد نظر، فكان المعهد الديني هو “المفرخة” التي ستُنجب أهم القيادات التي سيتم زرعها في مختلف المواقع السيادية في قطر والدول المجاورة.
هذا المعطى يؤكده القرضاوي، بكثير من الفخر، حين يصرح بأنّ “المعهد خرّج مجموعة من خيرة أبناء قطر، وأبناء الإمارات، فقد كان المعهد لهم جميعاً، وكان خريجوه هم الذين أكملوا دراستهم في الأزهر غالباً أو في كلية دار العلوم، أو في جامعة المدينة المنورة: أمثلة تحتذى، وقد أصبحوا جميعاً من القيادات الدينية والتربوية والثقافية والسياسية في المنطقة…حتى إني أذكر أنه في الوزارة السابقة في قطر، كان فيها أربعة وزراء من خريجي المعهد: الأستاذ عبد العزيز عبد الله تركي (وزير التربية الوطنية) ود. حمد عبد العزير الكواري (وزير الإعلام والثقافة)، والأستاذ أحمد عبدالله المحمود (وزير الدولة للشؤون الخارجية) واللواء حمد بن عبد الله بن قاسم آل ثاني (وزير الدولة لشؤون الدفاع) واثنان بمرتبة وزير: الشيخ عبد الرحمن عبد الله المحمود (رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية) والشيخ محمد بن عيد آل ثاني (رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة)” (ج2 ص 280/281).
كما يشير القرضاوي إلى أنّ المعهد تخرج منه عدد كبير من السفراء والذين، نعتقد شخصياً، أنهم كانوا في صلب أجندة التنظيم الدولي للإخوان من أجل خلق وتوجيه فروع التنظيم الدولي للإخوان في باقي الأقطار.
في دوحةِ الخير، يا حياكم الله
تلوح منه لنا في بون أضواه
ولا تراويحنا، وَاحرَّ قلباه
ذكرَ الغريب بعيد الدارِ مأواه
(من ديوان القرضاوي نفحات ولفحات)
كانت هذه إطلالة على أولى الإرهاصات التاريخية لوصول الإخوان إلى قطر ومحاولة بناء الهياكل التنظيمية للجماعة والتحضير لقاعدة الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي في أفق التحضير للوصول إلى مرحلة “التمكين”، حلم حياة تنظيمات الإسلام السياسي.
غير أنّ الإستراتيجية الإخوانية ستعرف تغيراً جوهرياً من خلال نجاح النظام القطري في إبرام “صفقة ما” مع تنظيم الإخوان “المسلمين”، والتي، نعتقد، أنّ من أهم بنودها حل التنظيم داخل دولة قطر مقابل دعم هذه الأخيرة للتنظيمات الإخوانية في العالم مادياً ولوجيستياً وإعلامياً للوصول إلى الحكم وخلق كيانات تابعة، عقدياً للإخوان، ومتحالفة سياسياً مع لقطر. هذا المعطى سيتحقق عملياً من خلال عمل التنظيم على حلّ نفسه العام 1999.
المصدر : عبد الحق الصنايبي