
تكشف أرقام التقرير السنوي الثاني عشر حول الاستقرار المالي، الصادر عن بنك المغرب وهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي والهيئة المغربية لسوق الرساميل، عن حقيقة صادمة لا تخطئها عين الفاحص: المغاربة يقترضون لا ليستهلكوا، بل ليعيشوا. فحين يبلغ جاري القروض الاستهلاكية 162 مليار درهم خلال سنة 2024، بزيادة تناهز 8 في المائة، فإن السؤال لم يعد مرتبطاً بمدى انتعاش السوق، بل بمدى تآكل القدرة الشرائية وتهالك السياسات العمومية التي فشلت في توفير الحد الأدنى من الأمان المالي للمواطن.
اللافت أن هذا الارتفاع يأتي في ظل حكومة يترأسها أحد أكبر الفاعلين الاقتصاديين في البلاد، لطالما قدّمت نفسها كضامن للاستقرار ومهندس لنموذج اقتصادي جديد. إلا أن الوقائع الميدانية، والأرقام الرسمية، تفضح هذا الخطاب المجمّل وتُسقط عنه ورقة التوت. فحين تمثل القروض الشخصية ما يقرب من 70 في المائة من إجمالي التمويلات، وتُستخدم لتغطية مصاريف الحياة اليومية، فإننا أمام مجتمع مرتهن للائتمان، لا بفضل اختياراته، بل تحت وطأة انسحاب الدولة وتآكل تدخلاتها.
ولأن الأرقام لا تكذب، فإن ارتفاع التمويلات المقدمة من شركات القروض الخاصة بنسبة تفوق 11 في المائة، مقابل نمو محدود في قروض الأبناك التقليدية، يعكس تحوّلاً خطيرًا في بنية السوق: فالأسر باتت تستدين من جهات أقل صرامة ولكن أكثر تكلفة، ما يضاعف من مخاطر التعثر، ويحوّل القروض إلى فخاخ استنزاف لا إلى أدوات تحفيز.
وفي خضم هذه الأزمة، تواصل حكومة أخنوش تسويق برنامج الدعم الاجتماعي المباشر كأنه معجزة اقتصادية، فيما الواقع يؤكد أن هذا الدعم لم يفلح سوى في إنتاج التبعية، وتوسيع قاعدة المديونية، وتمديد عمر الأزمة الاجتماعية. لا فرص شغل حقيقية، لا إصلاح جبائي، لا عدالة مجالية، لا حماية للأجور من التضخم، فقط سياسات تجميلية تُقدَّم في واجهات إعلامية، بينما تتسع رقعة الهشاشة، وتتشكل طبقة جديدة من الفقراء المقنّعين الذين يعيشون بـ”كريدي”.
التناقض الصارخ بين خطاب الإنجاز وأرقام المديونية لا يمكن فهمه خارج منطق سياسي يعلي من شأن الصورة على حساب المضمون، ويُفضّل إدارة الأزمة على مواجهتها. بل يمكن القول إن هذه الحكومة تُدير العجز بوسائل العجز ذاته، وتنتج التفاوتات باسم “الاستهداف”، وتُشرعن التقهقر باسم “الإصلاح”.
لقد بات واضحًا أن المغرب يعيش لحظة حرجة تستدعي ما هو أكثر من المعالجات التقنية. فنحن أمام حالة من الانكشاف البنيوي، حيث لم تعد الأسر قادرة على الصمود دون قروض، ولم تعد الدولة قادرة على إنتاج الأمل دون وعود فارغة. في هذه اللحظة بالذات، يصبح الصمت نوعًا من التواطؤ، ويغدو التطبيل لإنجازات وهمية شكلاً من أشكال التنكر لكرامة المواطن.
حكومة أخنوش مطالَبة اليوم بأكثر من دفاع إعلامي عن سياساتها، فهي مطالَبة باعتراف سياسي بفشل الخيارات المتّبعة، وبجرأة في إعادة ترتيب الأولويات، قبل أن تتحول الأزمة المالية للأسر إلى أزمة ثقة جماعية، تهدد ليس فقط التوازنات الاجتماعية، بل الاستقرار الوطني برمّته.
فالكرامة لا تُقاس بنِسَب النمو، بل بقدرة الإنسان على العيش دون إذلال… وما تكشفه أرقام القروض الاستهلاكية ليس انتعاشاً، بل إنذار أخير لحكومة فقدت بوصلتها، وتوشك أن تفقد شرعيتها.
