صلاح الدين عبد القادر يكتب: إلى با ادريس.. الوزارة التي لن تأتي!

يقلم: صلاح الدين عبد القادر
لطالما كانت السياسة ميدانًا واسعًا، ممتلئًا بالصراعات الصامتة، حيث تتقاطع الطموحات مع الواقع، ويُختبر الوفاء عند كل منعطف. في هذا العالم، يظن الكثيرون أن الطريق مفروش بالخطاب، وأن الولاء وحده كافٍ للوصول إلى الكراسي، لكن الحقيقة أعمق وأكثر مرارة: الميت لا يُستوزر، والأموات لا يطلبون مناصب، والموتى وحدهم يعرفون قيمة الصمت والوفاء.

في كل تجربة حزبية أو تنظيمية، يظهر الغياب أكثر من الحضور، وتصبح الفراغات أكثر وضوحًا من الإنجازات. الوزارة ليست مجرد حقيبة، بل امتحان يومي ومسؤولية تحتاج إلى حضور كامل، وجرأة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وثباتًا لا يعرف التأجيل. الأموات يعرفون ذلك جيدًا… فقد جربوا الحياة، وعرفوا أن أي طموح لم يُنجز قبل الرحيل يصبح مجرد ذكرى صامتة، شاهدة على ما كان يمكن أن يكون.

كم مرة شاهدت الأحياء يتسابقون على الحقائب، يتقاتلون على التفاصيل الصغيرة، ينسون المبادئ، ويغفلون الوفاء؟ كم مرة ضاعت فرصة الحقيقة وسط الصخب والضجيج؟ الموت، يا با إدريس، يعلّم درسًا واحدًا: من لم يمت عن كبريائه، سيُدفن حيًا في خيبة الأمل، ومن مات، كما أنت، لا يطلب شيئًا… لا الوزارة، لا الشهرة، لا الاعتراف.

الوزارة التي يحلم بها الأحياء غالبًا ما تكون مرآة لهم، لكنها ليست لكل من استحقها حقًا. الموت لا يمنح أحدًا حقيبة، ولا يترك مجالًا للتفاوض. كل وزير حي، مهما كانت قدراته أو ولاؤه، سيكتشف أن الوزارة ليست أكثر من اختبار للقيم، وأن الأموات الذين سبقوه يعرفون الحقائق التي لا يعرفها الأحياء: المناصب تذهب لمن يظل حيًّا بما يكفي، وليس لمن عاش بصدق ثم رحل.

أرى في السياسة اليوم وجوهًا تتحدث، وأحياءً يحاولون لعب أدوار لا تناسبهم، وقلوبًا صامتة تنتظر الإشادة، لكن من يعرف الحقيقة يعرف أن السلطة لا تُمنح إلا لمن يعرف كيف يفرض حضوره في الحياة، ومن يعرف كيف يترك أثرًا حتى بعد الغياب. أنت، يا با إدريس، كنت تعرف أن الوزارة الحقيقية ليست في حقيبة، بل في القدرة على الثبات، والصدق، والوفاء، حتى وإن غادرت العالم قبل أن تُعلن النتائج.

كل خطوة خطاها الأحياء أمامنا كانت تعلمنا درسًا جديدًا: الوزارة لا تأتي إلا لأولئك الذين يقدرون مواجهة التاريخ، ويعرفون أن الأموات وحدهم هم الذين يملكون الحقيقة الكاملة، لأنهم تجاوزوا اللعبة كلها ولم يضطروا للانحناء أمام أي شيء.

كم هو مؤلم أن ترى الطموحات تُباع، والمواقف تُهدر، والقلوب تُفرغ من الوفاء، بينما يظل صوتك في ترابك أعلى من كل صخب، وأصدق من كل خطاب. الميت لا ينافق، لا يساوم، لا يساوي الفرصة، لأنه تجاوز كل ذلك. أنت، يا با إدريس، لم تكن بحاجة إلى أي منصب لتثبت قيمتك، ولم تكن بحاجة لأي شهادة لتُعلَن وزارتك، لأنك كنت الوزير الحقيقي: وزير الصدق، وزير الوفاء، ووزير الصمت النبيل.

في كل خطاب، أرى صدى صمتك، وفي كل مؤتمر، أشعر بغيابك الحاضر. الأحياء يظنون أنهم يتحكمون في المشهد، لكن الميت يعلم أن الحقيقة أكبر من كل المجاملات، وأن كل من يحاول أن يسرق الضوء، سيظل مضاءً فقط من خلال إرث الأموات.

لقد جربت أن أكتب التحليل السياسي بأكثر الأساليب جرأة، أن أفضح الغياب عن المبادئ، أن أفضح التفاهة السياسية والبحث عن المناصب، وكل ذلك وأنا أستحضر وجهك، يا با إدريس، لأنك كنت تعرف أن السياسة الحقيقية تبدأ حيث ينتهي الطموح الشخصي.

الوزارة التي لن تأتي للأحياء كثيرًا ما تكون شهادة على فشلهم، بينما للميت حرية أن يراقب الأحداث بصمت، وأن يعرف الحقيقة كاملة، دون أن يخضع لأي مهادنة أو تبرير. الأموات وحدهم يعرفون قيمة الكلمة التي لا تُكتب، والقرار الذي لا يُعلن، والتاريخ الذي يُحفظ في القلب، لا في الصحف أو على المنابر.

أدركت أنك كنت تتجاوز اللعبة كلها، يا با إدريس، كنت تعرف أن الوزارة الحقيقية ليست في الرئاسة أو الحقيبة، بل في القدرة على أن يظل الصوت حيًا، وأن تظل المبادئ حيّة، حتى بعد الغياب الجسدي. كل من يقيس النجاح بالكراسي، ينسى درس الأموات: الوفاء لا يُقاس بالمكتب أو بالمنصب، بل بالقدرة على الصمت عند الحاجة، والوقوف عندما يجب، دون مكافآت أو شهرة.

في كل لحظة أكتب فيها، أشعر أنك تبتسم من مكانك الهادئ، وتهمس: “دعهم يجربون السلطة، دعهم يلهثون وراء المناصب، فالميت لا يُستوزر… والموتى لا يطلبون الوزارة.”
أنت تعلم أن العظمة الحقيقية ليست في الحقائب أو العناوين، بل في الصدق، وفي ترك أثر، وفي الوفاء الذي لا يزول مع الرحيل.

نم قرير العين، يا أبي الغالي، رحمه الله رحمة واسعة، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة. الموت لا يُسلبه أحد، والوزارة التي لن تأتي لا تقلل من قيمتك، بل ترفعك فوق كل الصراعات الصغيرة والعبثية. لقد علمتني أن الوفاء الحقيقي لا يُقاس بالحقائب، وأن العظمة تكمن في البقاء صادقًا حتى في الرحيل.

لقد كان صمتك، يا با إدريس، أعظم درس في السياسة، وأصدق مثال على أن الوزارة التي لن تأتي ليست خسارة، بل تكريم لمن عرفوا معنى الوفاء. الأموات وحدهم يعرفون قيمة الحياة الحقيقية، وقيمة الكلمة التي لا تُنطق، والقيم التي لا تُباع.

ابنك المخلص، صلاح الدين عبد القادر