عبدالعاطي طُلْبَة
العشق.. في ماهية العشق
يقول نجم الدين كُبْرَى:
نِهَايَاتُ المَحَبَّةِ، بِدَايَاتُ العِشْقِ.
فَرْطُ الحُبِّ
يخبرنا ابن منظور عن العشق؛ فيقول: هو فَرْطُ الحب، والعَشَقُ هو اللزوم للشَّيءِ لا يُفَارِقُه، ولذلك قيل للكَلِفِ: عاشق؛ لأنه يلزمُ هواه. وسُئِلَ أبو العبَّاسِ أحمد بن يحيى عن الحُبِّ والعِشقِ: أيُّهُمَا أحْمَدُ؟ فقال: الحب؛ لأنَّ العشقَ فيه إفراط، وسُمِّيَ العاشِقُ عاشقًا؛ لأنَّه يذْبُلُ من شدِّةِ الهَوَى كما تذبلُ العَشَقَةُ (شجرة تخضرُّ ثم تَدِقُّ وتَصْفَرُّ) إذا قُطِعَتْ.
الْتِفافُ العِشْق
ولا يكاد يختلف حكماءُ المسلمين في تعريف العشق عن معناه اللغوي، وإن حاولَ بعضُهُم أن يضفِيَ عليه معنى خاصا. فإذا نظرنا مثلا إلى ابن عربي، وهو صاحبُ فلسفةٍ تَتَوَسَّل اللغةَ والقرآنَ، نجد أنَّه لا يُخالِف المعنى اللُّغوِيَّ كثيرا وإنْ أضافَ إليه بُعْدًا آخر، يقول: “العشقُ هو إفْرَاطُ المحبَّة، وكنى عنه في القرآن بشدة الحب في قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)، وهو قوله: (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أي صارَ حبُّها يوسفَ على قلبِها كالشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب؛ فهي ظَرْفٌ له، مُحِيطَة… والعشق التفافُ الحُبِّ على المحب حتى خَالط جميعَ أجزائه، واشتمل عليه اشتمالَ الصَّمَّاء، مُشْتَقٌّ مِنَ العَشَقَة”. وقد تعني العَشَقَة نوعًا من اللِّبْلَابِ يلتفُّ على الأشجار حتى يُخَفِّفَهَا، وسُمِّيَ هذا من وَجْهِ التَّشْبِيهِ؛ لأنَّه يُجَفِّفُ صاحبَه ويُذْهِبُ عنه رونَقَ الحياة.
“والعشق هو هذا الحب الذي يَلْتَفُّ بالإنسان من كلِّ جانب؛ فيُصِمّه عن كلِّ مَسموع سوى ما يسمع من كلام محبوبه، ويُعْمِيهِ عن كلِّ مَنظور سوى وجه محبوبه، ويُخْرِسُه عَنْ كلِّ كلام إلا عن ذكر محبوبه وذكر من يحبُّ محبوبَه، ويختم على قلبِه؛ فلا يدخل فيه سوى حبِّ محبوبه، ويرمي قُفْلَهُ على خِزَانَةِ خَيَالِه فلا يَتَخَيَّلُ سوى صورةِ محبوبه إما عن رؤية تَقَدَّمَتْهُ، وإما عن وَصفٍ يُنْشِئُ منْه الخيالُ صورةً؛ فيكون كما قيل:
خَيَالُكَ في عَيْنِي، وذِكْرُكَ في فَمِي، .:. وَمَثْوَاكَ في قَلْبِي؛ فَأَيْنَ تَغِيبُ؟”
نهاياتُ المحبة
وهو عند جلال الدين الرومي نار تَحْرِق كلَّ ما سوى المحبوب، ومعنى أنَّ نهاياتِ المحبة، بداياتُ العشق؛ أنَّ الحٌبَّ إذا عَمَّ جميعَ الإنسانِ بجملته، وأعماهُ عن كلِّ شيء سوى محبوبه، وسَرَتْ تلك الحقيقةُ في جميع أجزاءِ بدنِه وقواه وروحه، وجرتْ فيه مجرى الدم في عروقِه ولحمِه، واتَّصَلَتْ بجميع أجزائه جسمًا وروحًا، ولم يَبْقَ فيه مُتَّسَعٌ لغيرِه، وصار لطفُه به سماعَه ونظرَه في كلِّ شيء إليه، ولا يرى شيئا إلا ويقول: هو هذا، حينئذٍ يُسَمَّى ذلك الحٌبُّ عِشْقًا.
العشق كَدَاء
عالج بعضُ حكماء المسلمين العشقَ على أنَّه داء ينبغي على الإنسان التخلُّصَ منه، وأنْ يقي نفسه من الوقوع في شَرَكِه، بل حاولوا أنْ يبحثوا عن دواء لهذا الدَّاء العَيَاء. ولكن… كيف يكون العشقُ داء؟
ابن القيم: مَنْ أَحَبَّ شيئًا غير الله عُذِّبَ بِهِ
ولأنَّ العِشق -كما يقول ابنُ القيِّم- هو إفراطُ المَحبَّة، فهو مذموم في كل شيء، وهو من الهيئات المذمومة التي تُصَيِّرُ الإنسانَ إلى حالاتٍ يُتَّخَذُ فيها المعشوقُ نِدًّا لله، يحبه كما يحب الله.
يقول أَحَدُ العاشقين:
وَصْلُكِ أَشْهَى إِلَى فُؤادِي .:. مِنْ رَحْمَةِ الخَالِقِ الجَلِيلِ
وسبب هذا كما يُصَرِّحُ كثير من هؤلاءِ: أنَّ العِشْقَ لم يُبْقِ في قلبِ العاشقِ موضعًا لغير معشوقِه ألبتة، بل قد مَلَكَ عليه قلبَه كلَّه؛ فصارَ عبدًا مَحْضًا من كلِّ وَجْهٍ لمعشوقِه. لذا يرى ابنُ القيمِ أنَّ العشقَ فساد من كل وجه؛ لأنَّهُ يُعَذِّبُ صاحبَه، وإنِ اسْتَعْذَبَ بِه، ويشتغل به عن مصالحِ دينِه ودنياه، وهو إذا تمكَّنَ في القلبِ واستَحْكَم وقوي سلطانُه، أفسَدَ الذِّهنَ وأحدث الوسواس، وربما ألحق صاحبَه بالمجانين، والعشق ليس مُفْسِدًا للذهن والعقل فقط، ولكنه مُفْسِدٌ للحواسِّ أيضًا؛ فترى العاشق يَرَى ما لا يُرَى، ولا يَرَى ما يُرَى، ولربما رأى القبيح حسنا والحسن قبيحا، وهو أصمّ عن كلِّ عذل؛ فلا يسمع، والرغبات تسترُ العيوب.
وفساد العشق عند ابن قيم الجوزية متعلِّق بمجاوزة الحد والخروج عن الشريعة، وإلا فإننا نجد ابن القيم يرى العشقَ داءَ أفئدة الكرام، ولا نراه يُنْكِر على صاحبِ العشق العفيف، من الرجل الظريف، الذي يأبى له دينُه وعِفَّتُه ومروءتُه أن يُفْسِدَ ما بينَه وبين الله، وما بينه وبين معشوقِه بالحرام.
الرازي: العُشَّاقُ يُجَاوِزُونَ حَدَّ البهائِمِ
ورأيُ الرازي الفيلسوف قريب كل القرب من رأي ابن القيم المذكور آنفًا؛ فقد عَدَّ العشق واحدا من الأدواء الروحانيَّة التي تؤدِّي بالإنسان إلى حالات مَرْذُولَة لا تليق بالرجال الكبار الهِمَمَ، فهو بليَّة عظيمة يتلبَّسُ بها الخَنِثُونَ من الرجالِ والمُتْرَفُونَ والغَزِلُونَ والفُرَّاغ.
وسببُ ذلك أن العشق مجاوزة الحدِّ في المحبَّةِ، والعُشَّاقُ يُجَاوِزُونَ حَدَّ البهائِمِ في عدم ملكة النفس، وذم الهوى، والانقياد للشهوات؛ فَهُم يركبون شهوةً على شهوة، وينقادون ويذلّون للهوى ذلا على ذل، ويزدادون له عبودية إلى عبودية، والبهيمة لا تصير من هذا الباب إلى هذا الحد ولا تبلغه! يرى الرازيُّ إذن العشق مرضا روحانيًّا غليظًا، يشوِّه النَّفس الإنسانيَّة تشوُّهًا مَمْقُوتًا، ويجعلها تألف الذل والخضوع والاستكانة.
ابن سينا: العشق شبيهٌ بالمالنخوليا
وإذا أتينا إلى ابن سينا فإننا لا نرى الحال أحسن من ذي قبل؛ حيث عدَّ العشق ضمن أمراض الرأس والدماغ، وقاله عنه أنه مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا، والمالنخوليا كما عرَّفَهَا ابن سينا تعني تَغيُّرَ الظنون والفكر عن المَجْرَى الطبيعيِّ إلى الفساد وإلى الخوف والرَّدَاءَة.
في رواية فردقان التي حاول من خلالها يوسف زيدان أن يعرض لصورة ابن سينا، يقول: والشيخ الرئيس [ابن سينا] كان يهاب اشتداد العشق. لا شكَّ لأنه يُصَيِّر الإنسان إلى تلك الحالات المرذولة التي حَطَّ الرزاي من شأنها. وفي هذه الرواية نجدنا أمام شخصية أُصيبَتْ بهذا الدَّاء حيثُ استدعتْ حاكمةُ الرِّيّ ابنَ سينا وطلبتْ منه الاجتهادَ في علاجِ قريبٍ لها. وعندما سألها عن الأمر قالتْ: صارَ مؤخَّرًا يحبو على أربع، ويُصْدِرُ أصواتًا كالخوار، ويقول لمن حوله إنه بقرة، وعليهم أن يذبحوه ويطبخوا لحمَه!
تناولَ إذن بعضُ حكماء المسلمين العشقَ على أنه حالة مرضية نفسية/روحانيَّة أو عقلية/دماغية، وهذه الحالة لها آثار سلبية على نفس العاشق وجسمه وعقله؛ إذ قد يعاني من اضطرابات جسدية أو عقلية خطيرة تتراوح حِدَّتُها من حالة إلى أخرى حسب اشتداد العشق والاستجابات النفسية والجسدية والعقلية التي تتعلق بكل عاشق على حِدَة.
العشق كَدِين
خلافا للرؤية السابقة للعشق، نرى أنَّ الصوفيةَ يُنزِلونَ العشقَ مَنْزِلَةً رفيعة، فهو عند بعضهم من جملة المقامات التي على السَّالِكِ أنْ يسلكها، وهو مقامُ لَذَّةٍ، حتى إنَّ العَاشِق من عظم ما يرى من اللذة لم يُرِدِ التَّرَقِيَّ عن مقام العشق، ولا يرغب في الخلاص مما هو فيه من آلام مُسَبَّبَة عن العشق، بل يطلب دوامَ هذه الحالة عَلَيْه. إنَّ حالة العشق حالة مقبولة عند العاشقين وإن كانتْ بالنسبة إلى ما فوقها من الحالاتِ مَذْمُومَة.
ثُمَّ… إنَّ العشق سَارٍ في جميع الموجودات؛ فإن كلا منها نَازِع إلى كماله، نَافِر عن النَّقص الخاصِّ به، وهذا معنى قولِ ابن سينا: “وفي كُلِّ واحد من الموجودات عشق غريزيٌّ لكماله”.
وعِشْقُ الصُّوَر الحسنة إن كانَ باعتبارٍ عَقْلِيٍّ فهو محمود، وإن كان لأجل لذَّة حيوانية فهو مذموم، وبالاعتبار الأول قد يكون قَنْطَرةً إلى العِشق الحقيقيِّ الذي هو جناحُ الطَّيران إلى حَظائر القُدْس.
نِهَايَاتُه فَنَاء
يقول الحَلَّاج:
عجبتُ مِنْكَ ومِنِّي .:. أَفْنَيْتَنِي بِكَ عَنِّي
أَدْنَيْتَنِي مِنْكَ حَتَّى .:. ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي
وإذا تناولَ الصوفيَّةُ الآلامَ المُلازِمَةَ للعشق، فلا يتناولونها على أنها أعراضُ مَرَضٍ ما، ولكن، على أنها علاماتُ وجودِه فحسب. يقول نجم الدين كُبرى: “والعشق نار تَحْرِقُ الحَشَا والكبد، وتُطِيشُ العَقْلَ، وتُعْمِي البَصَرَ، وتُذْهِبُ السَّمَعَ، وتُهَوِّنُ رُكوب الأهوال، وتُضَيِّقُ الحَلْقَ حتى لا يَعْبُرَ فيه إلا النَّفَسُ، وتُجَمِّعُ الهِمَّةَ على المعشوق”.
وللعشق نهايات يصير فيها العاشق مُتَّحِدًا بمعشوقِه، كأنَّه هو. يذكر روزبهان قصةً مُطَوَّلَةً عن حوادث روحية عرضتْ له، يقول فيها: “ثم جعلني مُتصِفًا بصفاتِه، ثم جعلني مُتَّحِدًا بذاتِه، ثُمَّ رأيتُ نفسي كأنِّي هو، ثم أفقتُ من ذلكَ، ونزلتُ من مقامِ الربوبيَّة إلى مقامِ العبوديَّة”. وهذا معنى قول نجم الدين: “وقد يفنى العاشقُ في العشق؛ فيكون العاشقُ هو العشقُ. ثم يفني العشقُ في المعشوق”.
اصطرلاب إلهيّ
يقول الرومي:
ونارُ العشق هي التي نَشَبَتْ في النَّاي.
يرى جلالُ الدين الرومي أنَّ العشقَ اصطرلاب يُدْرِكُ به الإنسانُ أسرارَ الإله؛ فالإنسان يُشبِهُ كثيرا هذا الناي المقطوع عن أصله ولا ينفكُّ يبكي ويئنُّ حنينًا إلى أصله المقطوعِ عنه، وهذا الأنين ليس مجرد نفخ/هواء فقط، بل هو نار، نار مستعرة، نار تحرق عنك كلَّ دَنَسِكَ، وتُطَهِّرُكَ، ومن لم تُصِبْهُ هذه النار، يظل قابعًا في غَيِّه، مُقيمًا في دَنَسِه. الإنسان إذن يحتاج إلى نار العشق تلك حتى تضيء له ما بين السماء والأرض، وحتى يصبح قادرا على الاتحاد بمعشوقه مرة أخرى.
إنَّ العشق هو الوسيلة لكشف كل الأسرار الإلهيَّة، أو لبيان النفس على حقيقتِها، سواء كان هذا العشقُ مُتَّجِهًا إلى الذاتِ العليَّة، أو إلى الذوات الأرضيَّة. والعشق الأرضي عشق مجازيٌّ؛ والمجاز قنطرةُ الحقيقة، وقد يصل السالكُ من هذا العشق الأرضي إلى العشق الإلهي الحقيقي الدائم الخالد.
والعشق عند شمسِ تبريزَ ماءُ الحياة، وأنتَ ما عشتَ حقًّا ما دامَ قلبُكَ هذا جافًّا، خاليا من العشق وآثارِه؛ فالعمر الذي يَمُرُّ دون عشق لا يُحسَب ولا يُعَدّ؛ لأن العشق هو النور الذي على السَّالِك أن يستضيء به في طريقه إلى الله، وهو الشعاع الذي يربط ما بين السماء والأرض.
يقول المتنبي:
وَعَذَلْتُ أَهْلَ العِشْقِ حتَّى ذُقْتُه؛ .:. فَعَجِبْتُ: كَيْفَ يَمُوتُ مَنْ لَا يَعْشَقُ؟!
اللهُ أَوَّلُ العاشقين
يقول الدَّيْلَمِيُّ:
سُئِلَ بعْضُ الفلاسفة -وأنا حاضر- عن بدء العشقِ؛ فقال: أولُ من عشقَ البارئُ تعالى؛ عَشِقَ نفسَهُ حيثُ لا سِواهُ، تَجَلَّى لنفسِه بنفسِه على جمالِه وجلالِه وجميعِ صِفَاتِهِ؛ فَعَشِقَ نَفْسَه.
يتبنَّى الحلَّاجُ عبارةَ (فيه استُدِلَّ عليه)،وهذا الاستدلال على الله به يقوم في داخل النفس على صورة شعور غلَّاب لا يتسرَّبُ إليه الزيفُ أو الشكُّ، بحيث يصبح الحديث النبوي، أو عبارة علي بن أبي طالب: (من عرف نفسه؛ فقد عرف ربَّه) مثلا يُضْرَبُ لتوضيح هذه الفكرة التي تقضي بأنَّ وَحْدَةَ الشهود، وهو الإحساس الداخلي الطاغي، بوجود الله دليل إيماني على وجوده تعالى في أعماق النفس الإنسانيَّة.
ذلك لأنَّ الله عندما عشق نفسَه، خلق الإنسان على صورته. يقول الدَّيلمِيُّ في معرِض كلامِه عن رؤيةِ الحلاج عن نشأة العالم وبداية الخلق: “وأراد الله تعالى أن يَرَى هذه الصفة من العشق على الانفراد؛ ناظرًا إليها، مُخَاطِبًا لها، فأقبلَ على الأَزَلِ؛ فأَبْدَى صورةً؛ هي صورتُه وذاتُه”.
والعشق عند الحلاج هو فقهُ الدينِ الحقيقيِّ وتطبيقه العمليُّ، وكانتِ النُّبُوَّةُ نتيجةَ هذا الحب المُتَبَادَل، وكانَ الوحيُ الذي هو نجوى حبيبينِ شبيهًا بمصباحِ النورِ يتلألأ في مشكاة القلب. وهذا موضوع الجزء الثاني من المقال، أتناول فيه كونَ العشق نورًا يربط السماء بالأرض كما يرى أهلُ المحبة.