التواصل بلغة “المشاريع” فقط: فرصة تاريخية لإرساء نهج جديد في التواصل بين السياسات العمومية والمواطنين
إن ربط كل هدف استراتيجي للدولة بمشروع أو عدة مشاريع منزلة بدقة متناهية حتى احتياجات المواطنين وشرائح الشعب على مستوى الجماعات المحلية، حتى الصغيرة والبعيدة منها، يشكل كنزا من المعلومات ذات قيمة مجتمعية عالية جدا ستمكن الجميع (الباحثين – الطلبة – الأحزاب – المنظمات…)، والدولة بالخصوص، من نهج سياسة استباقية وحمائية تجاه كل أشكال الاحتجاج سواء كانت شعبية أو فردية.
وبذلك ستتمكن الدولة من خلال هذا النموذج التواصلي الجديد من اتخاذ إجراءات حمائية تجاه أي خطر في التوازنات الاجتماعية والسلم الاجتماعي، وكذلك التنبؤ مسبقا بتصاعد الاحتجاجات الشعبية في المملكة، سواء كان ذلك في الشوارع (كما حدث في إقليم الحسيمة) أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي كما حدث في المغرب (ولو بحدة أقل) أو كما حدث في مصر (بحدة قاتلة زعزعت النظام في ذلك الوقت).
إن تكوين المشاريع وتصنيفها سيتم بمطابقة وانصهار احتياجات المواطنين التي سيتم تجميعها من خلال حلقات التشكي التي تحدثنا عنها من قبل عبر وسائل رقمية قوية وواسعة.
وسيتم تجميع حاجيات مختلفة ومتباينة انطلاقا من جميع الحلقات حتى يصل المشروع إلى الربط المباشر والنهائي بأصغر حلقة وهي المواطن نفسه؛ وذلك مرورا بجميع مستويات التصنيف (الدولة، الجهة، المدينة، المقاطعة، الحي).
وبذلك تتمكن الحكومة من تفادي حوار “الصم” بينها وبين المواطنين، وتنقية عملية التواصل من “الصداع Bruit” الذي يكون عادة سببا في الاختلاف والتشنج، كما تبين لنا من خلال احتجاجات الشمال التي كان السبب الرئيسي فيها ليس ما رصدته الدولة من أموال لأقاليم الشمال، ولكن ضعف التواصل الدقيق والتتبع “المشاريعي” المفصل، مما كاد أن يعصف بالحكومة كاملة بعد الخطاب الملكي (الثائر) الأخير.
عندما يكون الاستثمار العمومي أقرب إلى الحلقة الأصغر التي تحيط بالمواطن وانتظاراته، تكون عملية التواصل إيجابية وذات مصداقية وتأثير إيجابي مباشر على المواطنين. كما أن التواصل عبر هذه الحلقة يكون له تأثير كابح للاحتجاجات والاحتقان والإحباطات.
في النهاية، نحن واثقون بأن التواصل عبر “المشاريع” يشكل المخرج الوحيد للعالم العربي والمغرب بصفة خاصة، من ورطة الاحتجاجات الشعبية والبديل السوسيو سياسي والاقتصادي الوحيد، الكفيل بأن:
- يضمن للمواطنين نظرة حقيقية وواقعية ومستدامة لأثر البرامج الحكومية على واقعهم اليومي، بما فيه واقع المقاطعة والجماعة والحي والمدينة، وهذا ما كان وما يزال مستعصيا فهمه على شرائح واسعة من المواطنين كما بينت ذلك بحوث كثيرة قمنا بها.
- ينزل البرنامج الحكومي من الاستراتيجية العامة للدولة التي يخططها الملك (الرئيس الحقيقي للمملكة) بشكل سليلي (Descendant) إلى مختلف المستويات الأخرى: برنامج القطاع، الجهة، المدينة، المقاطعة والحي، ويضمن صعود المعلومات والمؤشرات أيضا بشكل تصاعدي (Ascendant) من المواطن (أسفل الهرم أو مركز الحلقة) إلى الملك أو رئيس الحكومة (أعلى الهرم أو في آخر الحلقة).
- يضمن للمواطنين قنوات “رسمية” ومقننة لتسجيل الشكايات وخصبة بالمعلومات عن المشاريع المبرمجة ومؤشرات تتبعها، ونقاط إلتقائها وانصهارها بانتظاراتهم؛ وبذلك تجنب البلاد الفوضى في التشكي وعدم عقلانية الطلبات، كما تجنب المواطنين الخوض في متاهات التشكي الراديكالي عبر قنوات غير رسمية لا يمكن لأحد التحقق من هويات أصحابها ومستعمليها.
- يعطي البديل للتشكي الراديكالي؛ وذلك بوضع البرامج كلها رهن إطلاع المواطنين (البرنامج الحكومي، البرنامج القطاعي، برنامج الجهة، برنامج المدينة، برنامج الحي…إلخ)، وبذلك لن تسمح الدولة بأي شكاية خارجة عن إطار ما التزمت به الحكومة ومن يتبعها من قطاعات وحتى يتسنى للجميع ترك الوقت للإنجاز والبناء بعيدا عن الصخب والفوضى وحوار “الصم”.
لكن، لكي يتم إنجاز هذا النموذج وجني ثمراته بسرعة، لا بد أن يتوفر كل قسم من أقسام الدولة على نماذج من مكاتب المشاريع (PMO)، وتكون لكل الإدارات قابلية التحول الجذري من الاشتغال “الإداري” إلى الاشتغال “المشاريعاتي” الخصب.
فمكاتب المشاريع الداخلية (IPMO) المرافقة والمواكبة لكل قسم من أقسام الدولة ستخول لهم مهمة انتقال الإدارة من التدبير بالميزانية أو التدبير المالي المحض إلى منطق التدبير بالمشاريع ومبدأ رجوع الاستثمارات العمومية PROI وتأثيرها على الساكنة. خلق وإنشاء هذه المكاتب يعد في نظرنا إجراء مستعجلا وضروريا لأجل مغرب المستقبل.
ولكي تكون لنموذجنا صبغة وطنية وذات بعد قومي كذلك، لا بد من خلق هيئة عليا كما أشرنا إلى ذلك من قبل، تكلف بتسيير المكاتب القطاعية كلها مباشرة، واستقبال مؤشراتها ومعلوماتها مباشرة لدمجها في شبكة وطنية لتسيير المشاريع مرتبطة ارتباطا مباشرا بطلبات وانتظارات المواطنين، ومتوفرة الاطلاع عبر موقع واحد يعطي البلد بأسرها.
هذه الشبكة ستكون ممونة بالمعلومات بشكل تصاعدي (المواطنينç الحكومة) وسليلي (الحكومةç المواطنين)، وسيخلق هذا عالما معلوماتيا خصبا ومنعشا للثقة بين الدولة والشعب، ومرصدا للمعلومات النافعة والصالحة للصحافة والباحثين.
إن الهدف المنشود من وراء هذه الشبكة المرتبطة هو إرساء نظام وطني موحد لاستقبال ومعالجة المطالب الشعبية على كثرتها واتساع رقعة أصولها، وإدماج جميع فعاليات الدولة من الملك إلى آخر قائد في المقاطعات أو رئيس أي جماعة قروية في البلاد في حركية تواصلية مدمجة تخدم الجميع، وتوفر ألواح مراقبة وطنية مفصلة وواسعة النطاق (Tableaux de bord) ستكون مصدرا لكل البرامج الحكومية السارية والمستقبلية، لأنها ستوفر للجميع المعلومات الأساسية والضرورية لاتخاذ القرارات على مستوى تسيير البلاد (الحكومة)، أو على المستوى الاستراتيجي الأعلى (الملك). فمثلا ستكون هذه الشبكة مصدرا لتزويد المجالس الحكومية بالمعلومات والمجالس القروية كذلك، على مستوى جميع القطاعات: العدل، الأمن، الصحة، التعليم، الثقافة…الخ.
وبذلك، سيكون المغرب قد قطع بصفة نهائية مع النظام التقليدي للتدبير المبني على منطق “اعتباطي” أو “سياسوي” أو “ظرفي”.
ماذا نستنتج؟ التواصل ضرورة قصوى عند الدولة
إن التواصل ضرورة قصوى عند الدولة تجاه المواطنين وليس خيارا.
فقد أبانت نتائج بحوثنا أن جل الإدارات العمومية بكل أصنافها تعاني من نقص صارخ في الكفاءات المؤهلة والكفيلة بمواكبة الإدارة في تحولها نحو النموذج الذي ندافع عنه CIRM، نظام إدارة العلاقة مع المواطنين.
هذا النموذج سيكون بمثابة اللبنة الأولى والأساسية لإرساء تواصل بناء ومستدام للدولة مع الشعب. والتعامل من خلال معلومات واقعية وحقيقية بين الطرفين (الدولة – المواطن)، كفيل بإرساء الثقة وإرساء المصالحة الحقيقية بين الإدارة والمواطنين، وسيجنب المغرب مآسي كثيرة كالتي عاشها جيرانه وكثير من البلدان العربية في الماضي أو ستعيشها في المستقبل.
التحول من الاشتغال الإداري إلى الاشتغال “المشاريعاتي” هو المنطلق الأول لعصرنة الإدارة والدولة على السواء، وهو الشرط الأساسي لتقوم عملية التواصل على أسس صحيحة وثابتة.