كتب آدم سميث «ثروة الأمم» مدفوعًا بعدة أسباب، منها أنه كان يرغب في تشجيع السياسيين على التخلِّي عن سياسة تقييد التجارة وإبعادها عن المسار الصحيح عوضًا عن السماح لها بالازدهار؛ لذلك استخدم لغةً صريحةً لا تزال سهلة الفهم حتى يومنا هذا.
لكن سميث كان يحاول أيضًا ابتكار علم اقتصاد جديد؛ فجاء عمله رياديًّا، وحفل بمصطلحات ومفاهيم قد يصعب التوفيق بينها وبين مصطلحات ومفاهيم أيامنا هذه. فنَصُّ كتاب «ثروة الأمم» يتصف بالانتقال من موضوع لآخر، فيعجُّ بالاستطرادات الطويلة وتزدحم فيه الحقائق — من سعر الفضة في الصين، إلى غذاء المومسات الأيرلنديات في لندن — مما يجعل سبر أغوار الكتاب أمرًا صعبًا؛ لذلك علينا أولًا أن نسلِّط الضوء على بعض موضوعاته الرئيسية.
ليس هناك في الكتاب أوضح من الموضوع الذي جاء بصدده أن «ضوابط التجارة غير قائمة على أساس سليم وتأتي بنتائج عكسية». كانت النظرة السائدة في أيامه هي الفكرة «المركَنتيلية» التي ترى أن ثروة الأمة هي مقدار ما تمتلكه من مال، وهذا يعني ضمنًا أن الأمة إذا أرادت أن تكون أكثر ثراءً، فهي تحتاج إلى بيع أكبر قدر ممكن مما تملكه للآخرين، حتى تحصل على أكبر قدر ممكن من المال في المقابل، وأن تشتري أقل قدر ممكن من الآخرين، وذلك كي تَحُول دون تسرُّب احتياطها النقدي إلى الخارج. وقد أدت هذه النظرة التجارية إلى تأسيس شبكة هائلة من تعريفات الاستيراد وإعانات التصدير والضرائب وتفضيلات الصناعات المحلية؛ حيث كانت جميعها مصمَّمة بهدف الحد من الواردات وتعزيز الصادرات.
أما نظرة سميث الثورية، فكانت تتمثل في أن الثروة لا تتعلق بكمية الذهب والفضة في خزائن الأمة، «فالمقياس الحقيقي لثروة الأمة هو ما تخلقه من تيار السلع والخدمات». وهكذا ابتكر سميث الفكرة الأساسية الشائعة في علم الاقتصاد حاليًّا، وهي إجمالي الناتج المحلي.1 وكان يرى بأن السبيل لزيادة هذا الناتج إلى حده الأقصى لا يتمثل في تقييد القدرة الإنتاجية للأمة، وإنما في تحريرها.
ومن الموضوعات المحورية في الكتاب أن هذه «القدرة الإنتاجية تستند إلى تقسيم العمل»، وإلى ما يتيحه من «تراكم رأس المال». ويمكن تحقيق مردود هائل عبر تقسيم الإنتاج إلى العديد من المهام الصغيرة، حيث تتولى كلًّا منها أيدٍ متخصِّصة، وهذا يتيح للمنتج فائضًا يمكن تبادله مع الآخرين، أو استخدامه للاستثمار في آلات موفِّرة للعمل، أحدث وأكثر كفاءة.
أما الموضوع الثالث، فيتمثل في أن ما للبلاد من «دَخْل مستقبلي يعتمد على تراكم رأس المال»؛ فكلما استثمرت في عمليات إنتاجية أفضل، كبر حجم الثروة التي ستتكون في المستقبل. لكن إذا كان الناس سيزيدون رأسمالهم، فلا بد أن يضمنوا حمايته من السرقة؛ فالدول التي تحقق الازدهار هي تلك الدول التي تنمي رأسمالها، وتديره إدارة فعَّالة، وتوفِّر له الحماية.
والموضوع الرابع مفاده أن «المنظومة تعمل آليًّا»؛ فعندما تندر سلعة ما، يُبدِي الناس استعدادهم لدفع المزيد في سبيل الحصول عليها، ويكون هناك المزيد من الربح في تزويدها؛ ولهذا يستثمر المنتِج المزيد من رأسماله في سبيل إنتاج المزيد. أما إذا أُغرق السوق بهذه السلعة، فستنخفض الأسعار والأرباح، وينتقل المنتِج برأسماله ومشاريعه إلى مجال آخر. وهكذا تبقى الصناعة في حالة من التركيز على الاحتياجات الأكثر أهميةً للأمة دون الحاجة إلى توجيه مركزي.
لكن «المنظومة لا تعمل آليًّا إلا في جوٍّ من التجارة الحرة والتنافس»؛ فعندما تمنح الحكومة إعانات أو حقوق احتكار لمنتِجين مفضلين على غيرهم، أو تحميهم خلف جدران التعريفات، يمكنهم أن يفرضوا أسعارًا أعلى، والنتيجة أن يكون الفقراء هم أكثر مَن يعاني من ذلك؛ لأنهم يواجهون تكاليف أعلى مقابل الضروريات التي يعتمدون عليها.
يُضاف إلى تلك الموضوعات أن «ثروة الأمم» تكمن في كيفية «تمخُّض المراحل المختلفة للتقدم الاقتصادي عن مؤسسات حكومية مختلفة». فمجتمعات الصيد والجمع البدائية لم يكن لديها إلا القليل مما تشعر بقيمته، لكن عندما أصبح البشر مزارعين، أضحت أراضيهم ومحاصيلهم ومواشيهم ملكياتٍ مهمَّةً، فأسسوا الحكومات ومنظومات العدل من أجل حمايتها.
وفي عصر التجارة، ومع مراكمة الناس لرأس المال، أصبحت الملكية ذات أهمية أكبر، لكن هذا العصر عاش فيه تجار أُتِيح لهم تحقيقُ مكاسب أكثر عبر تشويه الأسواق لمصلحتهم، وكان لديهم من المكر ما يكفي لاستخدام العملية السياسية لخدمة هذه الغاية. «إن التنافس والتبادل الحر يتعرَّضان إلى الخطر من جانب الاحتكارات والتفضيلات الضريبية والضوابط، وغيرها من الامتيازات التي يمكن للمنتجين أن يحصلوا عليها من السلطات الحكومية.»
ولهذه الأسباب جميعها، آمن سميث بأن «الحكومة يجب أن تكون محدودة»؛ فمهمتها الأساسية تتمثل في القيام بشئون الدفاع، والحفاظ على النظام، وإنشاء البِنَى التحتية، وتعزيز التعليم. ويجب عليها أن تحافظ على انفتاح السوق وحريته، لا أن تعمل على تشويهه بأي شكل من الأشكال.