سعيد جعفر يكتب: هل لا زال الإجماع الفقهي صالحا في القرن 21؟
فكرة الإجماع هي فكرة براقة، وبقدر ما تمنحنا الإطمئنان على أننا موحدون ومعتصمون بحبل واحد فهو يطوي تحت إبطه أول حق رباني للفرد وهو فردانيته وحريته وحرية رأيه واختياره وقراره.
ولتزكيته تاريخيا من طرف السلالات الحاكمة منذ الآشوريين والسومريين إلى الأنظمة غير الديمقراطية والجماعات الشمولية المغلقة اليوم، فقد قدم على أنه أفضل وأسمى ما يمكن الوصول إليه لضمان أمن واستقرار الجماعة، وهكذا وظف كوسيلة لإلجام الناس من الرفض والنقد والاختلاف.
لا يختلف العقل الديني الإسلامي عن هذه الفلسفة التي تقدس الإجماع والولاء لمنع الحرية الفردية، ولهذا موقع “إجماع العلماء والمحدثين” كمصدر ثالث ضمن مصادر التشريع الإسلامي مع ما يكتنف هذه الموقعة من مشكلات موضوعية وذاتية نناقشها في هذا المقال.
تبدأ هذه المشكلات من التسمية والتعريف، فعبارة “الإجماع” التي تعني لغة عقد العزم والاتفاق الكلي والنهائي عليه يطرح مشكلة وثوقية الدلالة مما ينصرف معه ذهن وفؤاد المتلقي إلى التسليم الكلي والإطمئنان النهائي، وبالتالي يتم التعطيل المقصود للواقع ومستجداته ليسيطر الماضي على الحاضر ويتعسف على معطياته.
هذا ما تؤكده على الأقل الفتاوى السوريالية المضحكة التي لا زالت تروج في الفضاء العمومي وتصدم الذوق العام من قبيل زواج بنت التاسعة وإرضاع الكبير وشرب بول البعير وغيرها.
ويعبر المعنى الاصطلاحي للإجماع عن استبداد مركز ضد كل أشكال حرية الفكر والتعبير والاختلاف فكونه “اجتهاد واتفاق علماء المسلمين في أمر ما اتفقوا على صحته وحكمه الشرعي”، يفوض لأقلية دون اختيار شعبي أو اتفاق علمي مهمة فرض آرائها على بقية الناس باختلاف آرائهم، وأفكارهم، و مستوياتهم المعرفية والإجتماعية، وخلفياتهم الفكرية، وجغرافياتهم، ومساراتهم التاريخية، ولغاتهم وألوانهم، وبيئاتهم،
وهو ما يمكن أن يكون فعلا استبدادا وديكتاتورية في الرأي وفي التقرير في مصائر الناس، وبالتالي لا فرق بين هذا الإجماع الفقهي للعلماء والمحدثين و العسكريون الذي ينقلبون على سلطة مدنية بالقوة ويفرضون آرائهم على الناس دون تفويض شعبي إرادي منهم، ولا فرق بينهم بين الأنظمة غير الديمقراطية التي تستمد شرعيتها من مصادر أخرى للشرعية غير شرعية الانتخاب.
بل إن استبداده وشموليته تمس ممارسيه أنفسهم، فقد وضع لنفسه قاعدة أساسية هي عدم الاختلاف حتى للعلماء وهي التي يمثلها “الإجماع السكوتي” الذي يلزم المتحفظين من العلماء على آرائهم بعدم التصريح حيث يمتنعون عن قول رأيهم.
وبمعنى أوضح فالعالم (سنعود لبيان مشكلات صفة العالم) إما يتفق اتفاقا فعليا فيكون إجماعا صريحا أو يسكت عن قول رأيه إذا كان متحفظا في الإجماع السكوتي. فليست هناك حرية رأي في الاختلاف وحرية التعبير عنه.
قانون الإجماع الفقهي شبيه بقوانين الثكنات العسكرية و الأحزاب الشمولية والأنظمة التوتاليتارية. وهذا يخلق مشكلا إضافيا يرتبط بصواب وصحة ما تم الاتفاق عليه سكوتيا ليصبح موجها لكل الأمة وهو في عمقه محل اختلاف.