هاشتاغ _ فؤاد الزكراوي
لقد بينا في الحلقة السابقة بشكل مقتضب كيف وصلنا إلى هذا الواقع المتردي للتغطية الصحية للقطاع العام، لكن ولمزيد من التوضيح وحتى تكون الصورة أوضح لدى القارئ، نعتقد أن هناك بعض المحطات الهامة التي لا بد من التوقف عندها قبل التطرق لحالة الفساد المستشرية داخل تعاضديات القطاع العام، والتي ما هي إلا المحصلة النهائية لنتيجة طبيعية لمسلسل مدروس انطلق بعد تعيين المدير السابق للكنوبس الذي تم تنحيته مؤخرا بشكل مهين يليق بطبيعة الدور الذي لعبه.
لقد جاء قانون التغطية الصحية 65.00 ببعض الأمور المحدثة والجديدة، ومنها الدور أو المهمة التي أُنيطت بالوكالة الوطنية للتأمين الصحي ANAM، حيث نصت المادة 59 من هذا القانون على أنه:
“تناط بالوكالة الوطنية للتأمين الصحي مهمة التأطير التقني للتأمين الإجباري الأساسي عن المرض، والسهر على إعداد الوسائل الكفيلة بضبط منظومته في إطار التقيد بالأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة به. …. الخ”
ولعل الرجوع إلى القرارات العديدة التي اتخذتها الكنوبس يوضح كيف تم خرق هذه المادة بشكل متعمد وبدون خجل، حيث قام الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS) باعتماد دليل مرجعي référentiel خاص به وبشكل أحادي ومختلف عن ما قامت باعتماده، وهو خرق لمهمة “توحيد وسائل تدبير التأمين الإجباري الأساسي عن المرض والوثائق المتعلقة به” الموكلة بموجب القانون 65.00. ولم يقف عند هذا الحد، بل قام كذلك بفرض نظام معلوماتي خاص به وهو نسخة قديمة ومتجاوزة تم استيرادها من فرنسا بكلفة مالية باهظة وفرض على التعاضديات التعامل به، وهو للإشارة نظام غير ذلك المعمول به لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
لم يقف حد الغطرسة في هذا الموضوع بل انفرد الصندوق وحده ودون الرجوع إلى الوكالة الوطنية للتأمين الصحي ANAM بالرضوخ إلى لوبيات القطاع الخاص من خلال الانفراد في غير ما مناسبة بتغيير نسبة التعويض الممنوح لبعض العلاجات دون غيرها (علاجات الأسنان مثلا وغيرها كثير) في تعدٍّ واضح على اختصاصات ANAM كما وردت في المادة 59 من القانون 65.00 الذي أوكل لها حصرا:
• الإشراف، في إطار الشروط المحددة بنص تنظيمي، على المفاوضات المتعلقة بإعداد الاتفاقيات الوطنية بين الهيئات المكلفة بتدبير أنظمة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، من جهة، ومقدمي العلاجات وموردي الأدوات والخدمات الطبية، من جهة أخرى؛
• اقتراح الإجراءات الضرورية على الإدارة لضبط منظومة التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، وبصفة خاصة الآليات الملائمة للتحكم في تكاليف التأمين الإجباري الأساسي عن المرض والسهر على احترامها.
ولن نطيل في هذا الموضوع لأننا ننوي العودة له بشكل مفصل لاحقا لما له من آثار حول ما أثير عن إفلاس منظومة التغطية الصحية للقطاع العام في علاقة بتقرير المجلس الأعلى للحسابات عن هذا الصندوق، لنبين كيف أن هذا الإفلاس المزعوم إنما هو مفتعل وغير حقيقي وغير مبرر أساسا.
ولكن لنتابع المحطات التي نعتبرها هامة علما أننا لن نستطيع جرد كل الاعتداءات على منظومة التغطية الصحية للقطاع العام في هذا المقال. فمثلا في سنة 2005، عندما قام الصندوق CNOPS بإعداد “الاتفاقية متعددة السنوات” مع التعاضديات باعتباره أصبح “هيئة مدبرة” بموجب القانون 65.00 إلى جانب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، نصت هذه الاتفاقية على تفويض تدبير ملف المرض للتعاضديات بمقابل مادي مع فرض مراقبة التعاضديات من طرف الصندوق عبر عدة وسائل، منها “النظام المعلوماتي ESCIF”، وأكثر من ذلك، ومنذ نهاية 2009 تم اتخاذ قرار بتخفيض مدة التعويضات إلى أجل 21 يوما عوض ثلاثة أشهر بالنسبة للعلاجات المتنقلة، وإلى 22 يوما بالنسبة لملفات الثالث المؤدي Tiers payant عوض 6 أشهر، والهدف الوحيد من وراء هذا التخفيض كان بكل بساطة هو استنزاف مالية التعاضديات لكنه في الواقع استنزف مالية الصندوق نفسه بالإضافة للتعاضديات.
ولن نقف هنا دون التعريج على الكم الهائل من الصراعات التي دخل فيها الصندوق مع الوكالة الوطنية للتأمين الصحي أولا ثم مع “هيئة الأطباء” والتعاضديات، حتى أن مدير الصندوق الذي تمت تنحيته مؤخرا كان قد راسل وزارة المالية والأمانة العامة للحكومة مبديا رغبته في فك الارتباط مع التعاضديات في مجال التدبير المفوض لملف المرض، خاصة بعد القرار الحكيم والذكي الذي اتخذته تعاضدية القوات المسلحة الملكية بالخروج من هذا الصندوق.
ولعل عدم موافقة وزارة المالية ولا الأمانة العامة للحكومة على هذا القرار الأخرق إنما أربك خطة الإجهاز على التغطية الصحية للقطاع العام بشكل ممنهج، حيث تلا ذلك عدة إجراءات كانت كارثية على موظفي القطاع العام وذوي حقوقهم، كإغلاق الصيدلية التعاضدية التي لعبت دورا هاما في تخفيف أعباء الاستدانة على أصحاب الأمراض المكلفة أو قرار إغلاق العيادة التعاضدية بحجة احترام المادة 44 من قانون 65.00، وهو نفس القانون الذي خرقه الصندوق في غير ما مناسبة دون أدنى اعتبار للوكالة الوطنية للتأمين الصحي ولا لاختصاصاتها، بل واستغل قراءته المنفردة لهذه المادة من أجل الإجهاز على العيادات الاجتماعية للتعاضديات، مستفيدا من فساد مسيريها وضعف تكوينهم ليفرض حلا غريبا عجيبا أدى إلى إفلاس التعاضديات.
وسنعود كما وعدنا في الحلقة الماضية لنبين أوجه هذا الفساد والتواطؤ الذي أضعف التغطية الصحية للقطاع العام ويكاد يعصف بكل المكتسبات النضالية التي حققها الشرفاء من مناضلي التعاضديات وبددها محترفو العمل النقابي وعطاشة التعاضديات..
(يتبع)