أقوى نساء التاريخ وأكثرهن نفوذاً.. زنوبيا حكاية مجد وسلطة وجمال

كانت زنوبيا ملكة إمبراطورية تدمر في سوريا وقادت تمرداً على سلطة الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث. وقد غزت مصر والأناضول ولبنان ويهودا الرومانية، وبالرغم من هزيمتها في النهاية على يد الإمبراطور الروماني أوريليان، إلا أن شجاعتها منقطعة النظير جعلت منها واحدة من أقوى النساء الحاكمات في التاريخ.

فاتنة سلبت بحسنها العقول، وفارسة ذرعت السهول على وقع الطبول، وقادت جنودها كالنمور إلى الفتوح. أطنب الرومان في الكلام عن جمالها، ونالهم العجب من بأسها وشجاعتها. وصفوها بالملكة المحاربة التي لا تهاب الأهوال وتقود بنفسها المشاة سيراً على الأقدام مسافات طويلة. وتصورها العرب على صهوة الجواد تصطاد مع فرسانها وتجلس وتأكل وتشرب معهم كأنهم أفراد أسرتها.

وصفوها بالسمراء ذات الشعر الطويل، عيناها سوداوتان ولامعتان، وأسنانها ناصعة البياض كأنها قطع من اللؤلؤ. تميزت بالجمال وبالعفة الصارمة، فهي الملكة التي لم تقبل أن يلمسها رجل بعد زوجها، إنها زنوبيا، التي جمعت المجد والسلطة والجمال، وغذت حكاياتها الأسطورة وخيال الكتاب.

اختارها أذينة، ملك تدمر الذي عيّنه الامبراطور الروماني فاليريانوس حاكماً على سوريا، زوجة بعد وفاة زوجته الأولى سنة 258م، وأنجب منها ابناً اسمه وهب اللات. كانت تدمر في تلك الفترة محطة تجارية حيوية بين الشرق والغرب، وتشكل الجبهة الرومانية الشرقية لصد هجمات الفرس والحفاظ على أمن روما.

وبعد انتصاره على ملك الفرس شابور، أراد أن ينفصل عن روما ويبني امبراطورية مستقلة عاصمتها تدمر. استاء منه التدمريون الموالون لروما وعلى رأسهم ابن أخته معن (موييوس)، ودبروا له مكيدة وقتلوه مع ابنه من الزوجة الأولى حران عام 269م. فانتقل الملك إلى وهب اللات الذي كان عمره سنة واحدة، وأصبحت زنوبيا في باكورة شبابها وصية على العرش.

سعت زنوبيا إلى تحقيق حلم زوجها، فحررت بقية المناطق السورية من سيطرة روما، واستعانت بزعماء القبائل العربية والأرمنية، ثم بنت جيشاً قوياً وقادته لتحرير مصر سنة 269 م، فاحتلتها وقتلت حاكمها الروماني وضمتها إلى تدمر. بعد ذلك قامت بعدة حملات في شمال سوريا واحتلت انطاكية والأناضول، ثم بسطت نفوذها على كامل بلاد الشام. غضبت عليها روما، وطلب منها الإمبراطور كلوديوس الطاعة، فقالت: لا! وقد أثار جوابها سخط روما كلها، كون امرأة تقول «لا» لأقوى امبراطورية في ذلك العصر.

أرست زنوبيا دعائم مملكة مترامية الأطراف، من البوسفور حتى الجزيرة العربية، ومن النيل حتى الفرات، ثم انشغلت بترميم داخل هذه المملكة الممزق. وأول ما قامت به هو توفير الأمن وأسباب العيش. فقامت بتطهير سوريا من المرتزقة والعصابات التي استوطنت الجبال الساحلية وأقلقت مضاجع القرى والقوافل المسافرة بالقتل والنهب والسبي.

كما سعت إلى تحقيق العدالة وعاقبت المعتدين بقسوة وترفقت بالمنكوبين. بعد ذلك بدأت بأعمال الإعمار والبناء، وحصّنت تدمر ودعّمت قلعتها بالأبراج والمجانيق، ثم قوّت الجيش وأسندت قيادته إلى الزبيد (زابيدس)، وتفرغت لإدارة مملكتها.

عاش التدمريون في رخاء وأحبوا ملكتهم التي أخذت تستقبل الوفود الدبلوماسية وتتفاوض معها. وسرعان ما خالفت سياسة روما التي تقوم على الهيمنة، ومدت روابط الصداقة مع البلاد المجاورة وعززت الصلات مع الحبشة ودولة الفرس عدوة روما.

ثم أصدرت أمراً باعتماد اللغة الآرامية لغة رسمية إلى جانب اليونانية، وألحقته بأمر ثان يمنع نزول الحاميات الرومانية إلى الساحل السوري دون إذن مسبق. وبلغ استقلالها عن روما الذروة حين صكت عملة جديدة تحمل صورة ابنها وصورتها وأسفل كل صورة كلمتان: الامبراطور أغسطس والامبراطورة اوغستا.

ومن جهة أخرى، كانت زنوبيا واسعة الثقافة، تتكلم اليونانية والآرامية والفرعونية بطلاقة وتعرف اللاتينية. لذلك اهتمت بالعلم وجعلته إلزامياً. كما أقامت صالوناً أدبياً ضم نخبة من رجال الفكر، أبرزهم الفيلسوف اليوناني كاسيوس لونجينيوس الذي عينته مستشاراً لها، المفكر الذي قامت الثقافة الغربية على كتاباته وكتابات أرسطو.

في سنة271م حشد أورليان، بعد عودته من بلاد الغال (فرنسا) وتعيينه خلفاً للامبراطور كلوديوس، جيشين ضخمين، الأول بقيادة بوربوس لاسترجاع مصر، والثاني بقيادته للقضاء على زنوبيا. التقى بجيشها قرب انطاكية، ونشبت معارك ضارية تفوق فيها جيش زنوبيا. بيد أن الجيش الروماني كان أضخم، ولم يعد باستطاعتها الاستمرار دون وصول التعزيزات العسكرية الفارسية، فتقهقرت وانسحبت مع جنودها إلى تدمر التي حاصرها أورليان، لكنه لم يقدر على اقتحامها. كانت غارات زنوبيا تنهكه، وسهامها لا تخطئ هدفا والمجانيق تمطر جيشه بالحجارة والنار اليونانية الحارقة التي لا تنضب.

شعر بالذل والهوان وتشوهت سمعته، كقائد عظيم يحارب امرأة ولا يستطيع أن ينتصر عليها، فكتب لها خطاباً يعرض فيه استلامها مع ثروتها مقابل حياتها والمحافظة على امتيازات ابنها الملكية، فأجابته بأن المعركة لم تحسم، وأنها ملكة وستموت ملكة. ثم قامت بالتفاف على جيشه وكبدته خسائر فادحة.

أخيراً نجح في اقتحام القلعة، وتقول بعض المصادر إن القائد التدمري اورمونتي دله على ممر سري، والسبب أن اورليان أراد الزواج من ابنته فيليديا وتنصيبه ملكاً على تدمر. وقد اعتمدت هذه الرواية الأعمال الأوبرالية، أبرزها أوبرا «زنوبيا ملكة تدمر» للشاعر الإيطالي أنطونيو ماركي.

هربت زنوبيا وابنها مع قافلة من الجمال، واتجهت شمالاً إلى بلاد الفرس. لحق بهما خيالة أورليان وأسروهما قرب الفرات. أخذهما أورليان معه كرهينتين، ويقال إنها رفضت الزواج من الإمبراطور الروماني وأضربت عن الطعام حتى ماتت.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *