جواد شفيق يكتب : بلاغة العروي و البلاغ..

جواد شفيق

في كتابه الشيق و العميق « استبانة » الصادر سنة 2016 ، و الذي يمكن اعتباره استمرارية لكتابيه « السنة و الإصلاح  » و « من ديوان السياسة  » من حيث مواصلة العروي مساءلة ذاته و وطنه عبر طرح سلسلة مركبة من الأسئلة الأنطلوجية و الإبستمولوجية ليجيب عنها بمزج عصارة رأسماله المعرفي الكبير من علوم التاريخ و الاجتماع و السياسة و النفس و الأنثربولوجيا ….ليقدم لنا أجوبة قوية و على درجة عالية من التعقيد.

في « استبانة » التي حبلت ب مائة و أحد عشرة سؤالا تراوحت بين الشخصي الصرف و الوطني الجماعي ، حضر سؤال الوطنية المغربية بقوة : إرهاصاتها، ميلادها، نشأتها، وحدتها و تفرقتها ، قوتها و وهنها ، صوابها و خطؤها…. و بعد أن عرف الوطنية مبدئيا بأنها ثلاثية المرتكزات : شعور ( اعتزاز بالذات و بالأجداد) سلوك ( إيثار ) و تطلع ( طلب للحرية و الرفاهية ) ، و بعد أن ميز بين الوطنية و المقاومة و اعتبرهما حركتان مختلفتان لأن المقاومة لا تنتمي لجنس « الوطنية العصرية » ، و بعد غزارة في المعطيات و التحليل سيخلص العروي إلى  » أن الوطنية المغربية في أغلب مراحلها _ و قد تناول بالتحليل و الدرس الفترة الممتدة بين 1830 و 1956، أي منذ احتلال الجزائر إلى ما بعد استقلال المغرب _ هي إفراز للمخزن ، أي الدولة المغربية العتيقة  » مضيفا بأن « من يقول بإلغاء دور المخزن بوصفه دمية في يد إدارة الحماية، من خلال استلهام تجارب (تونس، ومصر، والهند إلخ ) لا يعرف جيدا المغرب . فالمخزن شبح، لكنه شبح والد « هامليت » يسير حركات الأحياء « .

عتاقة دولة المخزن مع حرصها على ديمومة طقوسها و مظاهرها لتتجاور مع الاختراقات التحديثية للدولة العصرية ستشكل موضوعة كتب أخرى للعروي لعل أبرزها « خواطر الصباح: مغرب الأماني أو المغرب المستحب 1999/ 2007 » .

لقد « حمل » المخزن العتيق على عاتقه مسؤولية إفراز وطنية مغربية ترافقه في رحلة « احتضان الاستعمار و مقاومته » ، و هو دور يحسب له لا عليه ، و في ذلك ربما تفسير لحالة التكامل و الاحتضان المتبادل التي حصلت في أوجها بين الوطنية المغربية و السلطان محمد بن يوسف الذي لقب بأب الوطنية المغربية.

في حوار آخر له ،حول بمقارنة منسوب الوطنية بما هي _ شعور، سلوك و تطلع _ لدى نخب الماضي و الحاضر ، سيطلق العروي حكما شديدا : نخب الحاضر أقل وطنية!!!

في حالتنا الراهنة ، الموسومة بهذا الدمار المسترسل لكورونا ( و تاريخ الأوبئة القريب و البعيد يعلمنا بأنها عصفت بدول و أنظمة و مجتمعات ) ، تبدو حاجتنا حيوية و ماسة و ضرورية و إلزامية لكثير من الوطنية.. لدى العامة و لدى الخاصة و النخبة خاصة.

وطنية تشعر بوضع الوطن و مواطنيه ، و تتحلى بكثير إيثار و تغليب للعام على الخاص ، و تتطلع إلى أن نتجاوز المحنة بأقل ضرر و كلفة و اهتزاز.
وطنية تقدر أن قدرنا الجماعي الآن هو أن نعبر منطقة الزوابع بوحدة و سلم اجتماعي ، و بتدبير ناجع للجائحة و تداعياتها الصحية و الاحتماعية و الاقتصادية ، و بتلازم بين الحزم و ضمان الحقوق ، و بين الطوارئ و ضمان سريان الحياة العامة.

وطنية لا صوت فيها يعلو على صوت التضامن الوطني الفعلي لكل فئات الأمة. و لكن ، و لأن كورونا أعطبت نسبة جد معتبرة من أبناء الأمة ، و كشفت هول هشاشتها الاقتصادية والاجتماعية ،
و لأن كورونا عرت حقيقة طبقة وسطى مهترئة ، و حقيقة نسيجنا الاقتصادي المهيكل و العشوائي ، و محدودية مواردنا و هوامش تحركنا ، و لأن كورونا عرت حقيقة لوبيات و كارتيلات محتكرة و جشعة…
و لأن كورونا كشفت أيضا متانة و مركزية بنيان كثير مؤسساتنا و على رأسها مؤسسة الملك : رئيس الدولة، أمير المؤمنين و القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية.

و لأن آثار الجائحة ليست إلا في بداياتها ، مما سيستوجب مجهودا وطنيا مضاعفا لاستمرار دورة الحياة الوطنية بأقل درجات « الاستثناء » .
فإن إجراءات طارئة و مستعجلة و حازمة تفرض نفسها على الدولة في تدبيرها و ترشيدها لمواردها الشحيحة، وفي قدرتها أيضا ،كراعية و مسؤولة عن ضبط توازنات المجتمع السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، على توجيه و حث نوع من القطاع الخاص الذي دأب على الربح و لم تمسسه الجائحة إلا بالنزر القليل، و بعضه ازداد دخلا ( قطاع الأبناك، التأمينات، الاتصالات، المحروقات، الفوسفاط ، الفلاحة التصديرية ، و ذوو للامتيازات و الاعفاءات و الرخص ….) ليتخلى عن أنانيته و يكون أكثر سخاء و عطاء و تضحية ، مساهمة في إنقاذ المركب الذي يقله و منكوبي الأمة من ضحايا كورنا ، و الذي إذا غرق غرق بجميع من فيه.

بقدر ما أبرز بلاغ الديوان الملكي حول مجلس المنافسة و موزعي المحروقات ، و هو يسمي الوقائع و الأشخاص بمسمياتهم ، عن مستوى عال و مشرف من الشفافية في التدبير الملكي لشؤون الدولة، و عن الحرص الواضح على « استقلالية و حسن سير المؤسسات » ، فقد أنبأنا بأن واقعة إصلاحية طال انتظارها تعترضها صعوبات و مقاومات وصلت حد انقسام أعضاء مؤسسة دستورية و تبادل الشكاوى إلى الديوان الملكي .

منذ خطوة بنكيران الليبرالية جدا القاضية بتحريرأسعار قطاع المحروقات…و أسعار المحروقات و أرباح موزعيها على جدول أعمال النقاش العمومي الافتراضي(المقاطعة ) و الواقعي و المؤسساتي…
و رغم التقلبات الإيجابية في غالبيتها للسوق العالمية للمحروقات منذ قرار حكومة بنكيران ، فقد استمرت هوامش الربح في الاتساع ، مثلما توسعت دوائر الغضب و التنديد من الاحتكار الجاثم على القطاع و نزوعه الجماعي( فيما يشبه اتفاقات غير معلنة يجرمها قانون المنافسة ) إلى منطق الربح و لاشيء غير الربح.

لقد كان جيدا أن يكشف بلاغ الديوان الملكي عن معطيات الواقعة كما تفاعلت داخل مجلس المنافسة و أن يعين لجنة للبحث فيها و تقديم نتائج البحث في أقرب الآجال… و هو ما يعني منطقيا بأنه ملف سيتم الحسم فيه .

قد يكون رئيس مجلس المنافسة أخطأ ، و قد يكون فقط حرك عش دبابير ، و مهما يكن الإجراء الذي سيتخذ لحماية مؤسسة دستورية يجب أن تنزه عن العبث،( إذا كان فعلا قد لحقها و إذا كان رئيسها قد أوحى فعلا بأنه يتصرف بناء على تعليمات أو على أجندة شخصية و خرق مقتضيات قانونية ) ،قد يكون حصل هذا و سيترتب عنه ما يجب أن يترتب ، و لكن المعطى المركزي في القضية الذي هو أسعار و أرباح و احتكار توزيع المحروقات يجب أن يعالج بنفس درجة الصرامة و الحزم ، لأنه كما من مسؤولية الدولة القوية العادلة أن تحمي مؤسساتها ، فإن من مسؤوليتها الثابتة أن تحمي شعوبها و مجتمعاتها ، بالقانون و بالتحكيم الحكيم و باستمرار المساهمة في إفراز أجيال و نخب جديدة من الوطنية المغربية بما هي : شعور و سلوك و تطلع.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *