إنسان بلتداون.. أكبر عملية احتيال في تاريخ العلم

صالح عبدالحفيظ

مُقدِّمة:
إذا ذكرنا تزوير حفرية فمن الواجب علينا ذكر إنسان بلتداون، الذي يُعتبر أشهر وأهم عملية احتيال في تاريخ العلم الحديث، كانت تحديدًا في عام 1912 عندما اكتشف تشارلز داوسون جُمجمتين في بلتداون في إنجلترا، كانت جمجمتين لأسلافٍ بدائية.

أثار البلتداون أو Eoanthropus dawsoni -وهو الاسم العلمي له وقتها، والذي كان يعني باليونانيّة “الإنسان الفجري” – ضجة كبيرة وقتها، فكان هو الحفرية المثالية المنتظرة، أو “الحلقة المفقودة” التي تجمع مزيج بين الإنسان والقرد، جبين الإنسان المعاصر المثالي والفك البدائي. وكان يعتبر واحد من أهمِّ الأسلاف السابقة، إلى أن توالت الاكتشافات في علم الحفريات مما جعل حفرية إنسان بلتداون شيئاً شاذًا لا يتناسب في الشجرة التطوريّة للإنسان.

قصة البلتداون:
كان أول اكتشاف أحفوري للنيندرتال عام 1856 في عملية للعثور على بقايا أحفورية للأسلاف البشرية. وفي نصف القرن التالي، تمَّت اكتشافات عديدة في أوروبا القارية وآسيا، ولكن لم يكن أيًا منهم في بريطانيا، أو على الأقل حتى عام 1912 عندما تم العثور على حفرية سلف بليستوسيني قديم ancient pleistocene hominid في منجم بلتداون في ساسكس، المملكة المتحدة. من الفترة بين 1912 إلى 1915، أسفر البحث في مناجم بلتداون عن جمجمتين، وأسنان كلاب، وفك سفلي (Eoanthropus) وأسنان أحفورية من حيوانات مختلفة من العصر الجليدي.

جمجمة انسان بيلتداون
كان الاكتشاف من بدايته يثير بعض الشكوك، فكان ظهور الشظايا الأولى للجمجمة – والتي كان من المفترض أن تظهر قبل بضع سنوات – مفاجئاً، وكذلك مع الجمجمة الثانية والتي من المفترض أن داوسون عثر عليها مع صديق مجهول، لكن لم يُعلم بهذا الصديق، ولا بالمكان الذي اكتشفها فيه! كان رد العلماء على الحفرية مختلطًا. بالطَّبع كان الجميع متحمسًا لحدث كحدث العثور على الحلقة المفقودة، كان أغلب البريطانيون متحمسين للغاية، بينما كان علماء الحفريات الفرنسيون والأمريكيون يميلون للتشكيك بعض الشيء، واعترض الكثير منهم بشكل صريح على أن الفك والجمجمة من حيوانيين مختلفين، واكتشافهمها معًا ليس سوى مجرد لبس، وكان جيريت سميث ميلر أحد أهم المعترضين في عام 1915.

انسان بلتداون
يجب أن نلتفت إلى أن الوقت الذي اكتشف فيه البلتداون لم يكن قد تم اكتشاف سوى عدد قليل جدًا من حفريات الأسلاف البشرية hominid فكان من المتوقع للجميع وجود “رابط مفقود” بين القرد والإنسان، وهكذا فُتح مجال كبير للتساؤلات والتوقعات، وكان إنسان بلتدوان بجبهته البشرية المعاصرة، وفك القرد المتأخر، بمثابة نموذج مثالي لكل هذه التوقعات. لم يصمد النموذج المثالي طويلًا، فخلال العقدين التاليين من الاكتشاف حدث عدد لا بأس به من الاكتشافات للهيومنادات القديمة hominids ومنها من كان يقترب من البشر، مثل اكتشاف الأسترالوبيثيكوس Australopithecus وإنسان بكين Peking man وغيرها من الحفريات التي تم اكتشافها مثل حفريات الإنسان المنتصب Homo erectus والأسترالوبيثسين australopithecine. وبظهور كل هذه الاكتشافات لم يعد إنسان بلتداون متناسبًا، مع ذلك كان هناك مدافعون عنه باستمرار مثل السير آرثر كيت، والذي حاول في عام 1931 أن يفسر بلتداون على أنه جد بليستوسيني مبكر للإنسان الحديث، فقال:

من الممكن إذن أن يكون بلتداون هو السلف البليستوسيني المبكر للإنسان الحديث، وقد يكون هو السلف الذي نبحث عنه خلال السنوات الماضية، لذلك فأنا أميل للقول أن بلتداون له أصول ترجع إلى الأسلاف الإنسانية الحديثة.

في الفترة ما بين 1930 إلى 1950،كان هناك زيادة مستمرة في تهميش إنسان بلتداون حتى تم تجاهله تمامًا في عام 1950. وكان من العادي ألا يكتب كسلف أحفوري في بعض الكتب، ومن وقت لآخر كان يثير الحيرة ويُحذف من الكُتب. وفي مرة، صنفه المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بكل هدوء على أنه مزيج من أحفورية قرد وإنسان، وعلى مر السنين أصبح بلتداون شذوذًا لا ينظر إليه، وكان أغلب الكتاب البارزين، حتى الموسوعين منهم، لا يكلفون أنفسهم عناء الكتابة عنه، يقول عالم الأنثروبيولوجيا شيروود واشبورن (1911-2000):

أتذكر عندما كتبت ورقة عن التطور البشري في عام 1944، وبكل بساطة لم يكن إنسان بلتداون فيها. يمكنك فهم التطور البشري ببساطة إذ لم تحاول وضع بلتداون فيه.

أخيرًا، في عام 1953، انهار كل شيء، لم يكن إنسان بلتداون سلفًا، لا ولم يكن حالة لبس خاطئة، بل كانت حادثة تزوير متعمد وصريح.

التزوير
كان التسلسل الزمني لموقع العثور على بلتداون مثيرًا للشكوك، فلم تكن تظهر هناك أي حفريات مهمة في منجم بلتداون. ابتدأ السير كينيث أوكلي محاولة العثور على أصل هذه الحفريات، مما قاده فيما بعد إلى كشف التزوير، وكانت النتائج الرئيسية التي توصل لها:

الجمجمة الأولى: تعود للعصور الوسطى، جمجمة إنسان، عمرها 620 سنة.

الجمجمة الثانية: نفس مصدر الجمجمة الأولى.

عظم الفك في الجمجمة الأولى: فك قرد، من حوالي 500 عام، ربما يعود أصلها إلى ساراواك ضرس الفيل: حفرية حقيقة، ربما يعود أصلها من تونس.

أسنان فرس نهر: أحفورية حقيقية، ربما يعود أصلها من مالطا أو صقلية. في الأصل كان يعتقد أنه تم استخدام جمجمة واحدة في عملية التزوير، لكن فيما بعد، عندما نُشرت ورقة دراجهورن الشهيرة، والتي تعتبر الورقة التي نعلم منها ما هو معلوم حاليًا عن مصادر العظام المستخدمة، بعد نشرها عُلم أن عظام الفك تعود للأورانجوتان، كان هناك سُمك غير طبيعي في الجمجمة، هذا السمك ليس بحالة طبيعية في المجمل، إلا أنها حالة منتشرة بين قبيلة أونا الهندية في باتاغونيا.

كانت عملية التزوير دقيقة للغاية، فلم يتم فقط اختيار مصدر مختلف لكل قطعة، لكن أيضًا قد تم تلطيخها بمحلول حديدي، وكان الهدف من هذا أن تظهر وكأنها وضعت في الحصى لفترة طويلة لدرجة أنه امتصت منها الحديد والمنجنيز. قبل أن تلطخ العظام (باستثناء عظم الفك) رشت بحامض كروميك لتحول الأباتيت (مكون معدني في العظام) إلى الجبس، كي يسهل من امتصاص الحديد والمنجنيز. وربما وضع العظام في محلول كبريتات الحديد كذلك، تم تلوين الأسنان بعد أن تم تلطيخها. أُزيلت الأضراس الموجودة في عظام الفك كي لا ينتج شكل غير ملائم مع الجمجمة. واضح أن الهدف من وضع سن الكلب هو إظهار حدوث تآكل.

كشف التزوير
حتى مع بداية ظهور مشاكل، لم يشر أي أحد أنها خدعة وتزوير صريح، إلا بعض الاستثناءات القليلة جدًا، ظهرت المشاكل الأولى عندما بدأ تطوير طرق التعارف على الحفرية، فظهرت تقنيات التعارف الحديثة مثل فحص الفلور fluorine absorption test أثبت اختبار الفلور أن الحفريات حديثة نسبيًا عما أُدعي في البداية، ورغم ذلك كانوا بمثابة حفريات أصلية. كتب أوكلي عام 1950 في مجلة Nature:

زادت نتائج اختبار الفلور من احتمالية أن يكون الفك السفلي والجمجمة لنفس المخلوق، يشير التاريخ المتأخر نسبيًا إلى أن إنسان بلتداون، أنه ربما كان حالة تطورية شاذة تطورت في عزلة خاصة، ولربما كان هذا يفسر الحالات الشاذة في الفك السفلي والسمك الزائد للجمجمة، فقد تكون مجرد تطورات ثانوية.

في عام 1925، أشار إدموندز إلى أن داوسون أخطأ في تأريخه الجيولوجي للحصى: كانوا أصغر سنًا مما افترضه داوسون، وفي عام 1951 نشر مقالًا يوضح فيه أنه لا يوجد مصدر منطقي لأحافير البلتداون الحيوانية، فقال:

لا بد أن يكون هناك سوء فهم، فالمزعوم أنه تم غسل المجموعة الاقدم من أحفوريات الحيوانات، تم غسلها من راسب بلايوسين في منطقة وايلد، ولا يوجد أي رواسب بلايوسينية في منطقة وايلد، لكن هذا لا يمنع من إمكانية إنتاجها.

في يوليو 1953 انعقد مؤتمر دولي لعلماء الحفريات تحت رعاية مؤسسة وينر جرين، اجتمع فيه أغلب علماء الحفريات في العالم، وفقًا للدكتور ج. وينر، بالكاد تم ذكر إنسان بلتداون. بسبب تلاشي احتمالية التزوير لم يكشف الأمر مبكرًا لكن، فقط إن كان حدث التشكيك لكان من السهل أن تكشف الخدعة. عند فحص أسنان بلتداون يتضح العديد من الصناعات اليدوية. مثل تركيب الضرس الأول والثاني بنفس الدرجة. كانت الهوامش الداخلية للأسنان السفلية أكثر تآكلًا من الخارجية، كذلك الحواف كانت حادة وغير منقوشة. وبعد فحص سطح الفك العلوي توضح وجود خدوش متقطعة نتيجة استخدام مادة كاشطة، ثم “ظهرت أدلة على حدوث تآكل اصطناعي” كما كتبت لو جروس كلارك:

كانت هذه الخدوش واضحة للغاية، ومن المؤكد أنها صنعت بمهارة. كيف نجت من عمليات الفحص السابقة؟

ببساطة لم يتم فحصها إطلاقًا، فلم يتم فحص بلتداون كحفرية مزورة، بل كانت تفحص دائمًا كحفرية أصلية، ولم يأخذ أي عالم احتمالية تزويرها.

لماذا إذن نجحت عميلة الاحتيال؟
لهذه الأسباب:

1 – كان الفريق الذي عثر على العينات (داوسون، دوودوارد، وتيلهارد) يمتاز بأوراق اعتماد ممتازة.

2 – عدم كفاءة المجمتع العلمي البريطاني في علم الحفريات.

3 – أدوات التحليل غير المتقدمة في عام 1920.

4 – مهارة التزوير كما شاهدنا.

5 – تطابق الحفرية مع النموذج الذي تم توقعه قبل ظهورها.

من فعلها؟
من ارتكب الخدعة؟ عندما اكتشفنا الخدعة لم يعلم أحد من هو الجاني، ولم يعترف أحد بهذا الفعل، لمدة أربعين سنة تراكمت قائمة طويلة من المشتبه بهم ورفعت قضية خاصة على كل من هو مشتبه به، ولكن سنكتفي بذكر المرشحين الرئيسيين. عندما تم الكشف عن الخدعة لأول مرة، كان داوسون وتيلهارد وودوارد المشتبه بهم الواضحين، فهم من اكتشفوا الحفريات الكبرى، وأشار وينر إلى وادسون بإصبع الاتهام، وحاول ستيفن جاي جولد أن يثبت أن تيلهارد وداوسون هما المذنبان، وفي النهاية نجا وودارد من الاتهامات، مع ذلك، فقد أقام دراهورن دعوى قضائية ضده عام 1994.

كان جرافتون إليوت سميث والسير آرثر كيث من العلماء الذين لعبوا دورًا أساسيًا في هذا الاكتشاف، لذلك جادل ميلر بأن سميث هو الجاني. جادل سبنسر بأنها كانت مؤامرة بين داوسون وكيث. ومن بين المرشحين الآخرين الذين ذكروا، علماء الحفريات، آرثر كونان ديول، دبليو جي سولاس، مارتن هينتون. بالطبع هذه ليست نهاية القائمة، فيوجد آخرين مثل هارجيفز، أبوت، بارلو وبوترفيلد. ويمكننا القول أن الجميع متهم، حتى من لم يكن له علاقة كبيره فيها، مثل ستيفن جاي جولد وغيره.

سوء فهم خاطئ
المتحف البريطاني هو من لفقها
انتقد ستيفن جاي جولد وغيره الحفرية منذ البداية وحاولوا إبقاءها تحت الفحص، مما يشير إلى أن الخدعة ربما قد تكون تعرض إليها البعض في وقت مبكر، بالطبع كان الوصول للحفريات في المتحف صعب، وهذا طبيعي مع الحفريات النادرة والقيمة، لكن مع ذلك من المشكوك أن هذا الأمن كان ليحمي الخدعة، فالخدعة كان من الممكن أن يتم إجراؤها في أي وقت. أكثر ما حمى الخدعة هو أنه لم يكن لأحد أن يفكر في وجود خدعة، فلعلماء الحفرية سجل حافل في الوصول إلى إنسان البلتداون، حتى أن مارتن هينتون قال لمجلة التايمز:

لو سمُح للمحققين بالتعامل مع العينات الحقيقية، لاكتشفت الخدعة من فترة طويلة.

ومن الواضح أن الوصول للحفريات الأصلية كان صعبًا للغاية في السنوات اللاحقة، في كتاب سيرته الذاتية، يقول ليكي، أنه عندما رأى بلتداون عام 1993:

لم يسمح لي بالتعامل مع الحفرية الأصلية بأي شكل، كان فقط رؤيتي لها مجرد إلقاء نظرة وإرضاء نفسي بأن العينات كانت نسخًا مطابقة للحفرية. ولكن فجأة، تزال النسخة الأصلية من أمامنا.

كتبت 500 رسالة دكتوراة مبنية على حفرية إنسان بلتداون
من أشهر المغالطات التي يكررها الخلقيون كلما ذُكر بلتداون، جاءت أول مرة في كتاب لجاري بيكر، وبالطبع لم يشر جيري إلى أي مصدر لكلامة هذا، وبالطبع لا يوجد عدد فعلي لرسائل الدكتوراة، ولكن يستحيل أن تصل لهذا العدد خصوصًا في مجال مثل الحفريات، وعمومًا كانت رسائل الدكتوراة قليلة جدًا في ذلك العصر، ففي وقتها كان يتم طرح رسالتي دكتوراة سنويًا فقط في الإنثروبيولوجيا الفيزيائية في الولايات المتحدة بأكملها.

خاتمة
بالطبع كانت هذه العملية، ولازالت، واحدة من أهم – إذ لم تكن أهم – عملية احتيال علمي في تاريخ العلم الحديث، وهي من أكبر العلامات السوداء في تاريخ العلم، علامة استغرقت 40 عامًا لإزالتها، كانت كارثة علمية، أهدر العديد من العلماء بسببها سنواتٍ كاملة يحاولون الوصول إلى خصائص وأصل ما تبين في النهاية أنه مجرد خدعة.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *