لماذا اغتال الجنرالات المجاهد محمد بوضياف؟

محمد بوبكري

يعد المرحوم « محمد بوضياف » من آباء الحركة الوطنية ومؤسسيها الذين فجروا ثورة التحرير في وجه الاستعمار الفرنسي، كما كرس حياته من أجل وطنه، وظل وفيا لمبادئه، حيث اختلف مع « أحمد بنبلة » و »هواري بومدين »، وفر من الجزائر ونجا من الاغتيال مرارا…

عندما اطلعت على سيرة هذا الرجل، أحسست بألم شديد لما عاناه هذا القائد الفذ من آلام وعذابات ومآس انتهت باغتياله بطريقة وحشية مأساوية. وما عمق حسرتي وآلامي هو أن سيرته تشبه سيرة بلد الجزائر الشقيق، وأن توقعات هذا الوطني الكبير كانت على صواب في شبابه، لأنه رفض منصب « رئاسة » الجزائر عندما كان عمره 41 سنة، ثم قبل به عندما بلغ 72 سنة من العمر. لقد قضى 28 سنة من الاغتراب متصوفا في مدينة القنيطرة بالمغرب، وبعد ذلك قبل العودة إلى الجزائر ليقوم جنرالات الجزائر باغتياله. فما الذي جعل رجلا بوطنيته ونبله وتضحياته يقبل في سن 72 سنة ما رفضه وهو في عمر 41 سنة عندما زاره « عبد العزيز بوتفليقة » في السجن الفرنسي مبعوثا من قبل « هواري بومدين »، وطلب منه أن يقبل بأن يكون رئيسا للجزائر، لكنه رفض ذلك مجيبا: من أنتم حتى تقرروا في هذا الأمر، لأنه من صلاحية الشعب الجزائري، لا من صلاحيتكم أنتم؟ ولما رفض « محمد بوضياف « عرض « بوتفليقة »، اتصل هذا الأخير بـ المرحوم « الحسين آيت أحمد »، وقدم له العرض نفسه، فرفض هو الآخر. وبعد ذلك اتصل بوتفليقة بـ  » أحمد بن بلة » الذي قبل المنصب، فانقلب عليه « بومدين » وعصابته »، وأطاحوا به وحولوا حياته إلى جحيم….

ولماذا قبل المرحوم « بوضياف » برئاسة « المجلس الأعلى للدولة »، رغم أنه مؤسسة غير شرعية، لا وجود لها في الدستور؟ وكيف أقنعوه بأن يقبل في سن 72 ما رفضه في سن 41؟ وكيف خدعوه؟ … إنها أسئلة محيرة! لقد كانوا يعتبرونه خائنا ابتداء من 1964 إلى سنة 1992 طيلة فترة اغترابه التي قضاها في المغرب، حيث اتهموه، على لسان « أحمد بن بلة » بأنه كان هو ورفاقه في معركة التحرير الجزائرية يتآمرون مع « الحبيب بورقيبة »، علما أن بعض المهتمين بهذه الفترة التاريخية يؤكدون أنه لم تكن للمرحوم « بوضياف » أية علاقة بـ « بورقيبة » آنذاك. لكن كيف أعاده الجنرالات إلى الجزائر في نونبر 1991، حيث شارك في برنامج نقلته التلفزة الجزائرية آنذاك، رغم أنهم كانوا يعتبرونه خائنا؟ ثم جاؤوا به بعد ذلك في زيارة سرية قضى فيها يومي 10و 11 من شهر يناير الموالي، حيث تم ترتيب اتفاق عودته نهائيا إلى الجزائر، فعاد إليها في زيارة رسمية وترأس « المجلس الأعلى للرئاسة » في 16 يناير 1992.

تجدر الإشارة إلى أن « محمد بوضياف » كان يدرك أن الذين عرضوا عليه منصب « رئاسة » الجزائر في سنة 1962، كانوا من مناهضي الاستعمار، لكن الذين عرضوا عليه هذا المنصب في سنة 1992 كانوا ضباط صف تكونوا في المدرسة العسكرية الفرنسية، وشاركوا في حروب الجيش الفرنسي ضد حركة التحرير الجزائرية، ثم تحولوا بعد ذلك إلى أذناب يخدمون مصالح فرنسا في الجزائر، مقابل استمرارهم في السلطة ضدا على إرادة الشعب الجزائري…

ولا شك أن طول فترة اغتراب المرحوم « بوضياف » عن الجزائر قد أثرت على معرفته بتفاصيل مجريات الحياة فيها، حيث كانت تغيب عنه أشياء كثيرة. وقد اكتشف ذلك بعد عودته، حيث تمكن من معرفة كل شيء عن فساد الجنرالات واستبدادهم، ما انتهى به بالندم على قبوله منصب رئاسة « المجلس الأعلى للدولة ». وبعد اكتشافه للحقائق كلها، قرر اتخاذ قرارات لم تعجب الجنرالات. وذات يوم، لما زاره السفاح « الجنرال العماري » في مقر « الرئاسة »، وعبر له عن عدم اتفاقه مع القرارات التي يخطط للشروع في اتخاذها، فانتفض المرحوم « بوضياف » في وجهه، وقال له: اخرج، وأنا أرفض أن أراك هنا مرة أخرى، ثم أطاح به بعد ذلك… ومن ثمة، يكون « بوضياف » قد وقع على شهادة اغتياله، لأن إطاحته بهذا الجنرال الذي كان رائد كل الجنرالات في الفساد والعنف والتقتيل جعلهم يُدركون أن المرحوم « محمد بوضياف » لا يصلح لهم، حيث أصيبوا بالهلع منه، وتأكدوا أنه سيشكل عائقا في وجه مخططاتهم.. لكن لماذا غضب الجنرال من المرحوم « بوضياف »؟ يؤكد بعض الجزائريين العارفين بتفاصيل هذه المرحلة أن الجنرالات كانوا على علم بأن هذا المرحوم كان سيقدم على خطوات تتضمن الخطوات الآتية:

– محاولة حل المشاكل مع المغرب، من حلال حل مشكلة الصحراء المغربية.

– محاولة القضاء على الرشوة والفساد، حيث عين لجنة من الضباط حدد لها مهمة البحث في ملف الرشوة والفساد…

ـ إطلاق سراح المعتقلين…

تبعا لذلك، فالمرحوم كان مقبلا على اتخاذ خطوات تضرب في العمق مصالح الجنرالات الذين يمارسون العنف والفساد ويغتنون منهما، كما أنهم ارتأوا في حل مشكل الصحراء وقوفا في وجه نهبهم لأموال الشعب الجزائري باسم دعم « البوليساريو »، الذي ينفقون عليه أموالا طائلة لا يعرفها « البرلمان » ولا « الحكومة »، لأن ذلك يبقى سرا بين الجنرالات الذين يوزعون الغنائم والصفقات فيما بينهم.

لقد اغتيل  » محمد بوضياف » في يوليو 1992، علما أنه كان ممكنا أن يقبل عروض « هواري بومدين » قبل تنصيب أحمد بن بلة، وبعد الإطاحة به، لأن « بومدين » بقي على اتصال بمعارضيه، الذين ظل يقترح عليهم قيادة الجزائر، حيث رفض عرضه المقاومان خيضر وكريم بلقاسم، وتم إعدامهما. لكن محمد بوضياف رفض، وأفلت من الإعدام بأعجوبة، وفر إلى المغرب. كما أن المرحوم المقاوم « الحسين آيت أحمد » قد رفض العرض وبقي على مواقفه، ونجا من الإعدام.

وهناك من قبل العروض التي قدمت له، وانقلب عليه الجنرالات، فانتهى به المطاف في مزبلة التاريخ، أو في طي النسيان، أو في الجحيم الذي خصصوه له. هكذا، فكل الذين قبلوا الاشتغال مع العسكر قد تعرضوا للاغتيال، أو عانوا من التعذيب والتهميش، إن بقوا على قيد الحياة.

ويروج البعض أن « علي هارون » هو من كلفه الجنرالات بإقناع المرحوم بقبول عرضهم عليه، ويضيفون أن بوضياف تعرض لضغوط من قبل أسرته ليقبل ذلك العرض. ويؤكد بعضهم الآخر أن الجنرالات دغدغوا عواطفه، وقالوا له: لقد كانت الجزائر في حاجة إليك في الماضي، فاستجبت لندائها، وقمت بواجبك الوطني وساهمت في تحريرها، واليوم الجزائر تعيش مشاكل كبرى، ونحن نسمع صوتها يناديك لإنقاذها عبر انتشالها من المشكلات التي تعيشها.. وبهذا الأسلوب تمكنوا من إقناعه بقبول عرضهم عليه، فقرر العودة إلى الجزائر من المغرب الذي يعتبر الجزائر بلدا شقيقا، كما أنه ساند حركة التحرير الجزائرية التي كانت وراء استقلال الجزائر، ولم يتردد يوما في تلبية ما طلبه منه قادتها.

هكذا، فإن هؤلاء الجنرالات كانوا يريدون الاختفاء وراءه من أجل العبث بالبلاد. ولما يئسوا من إمكانية استعماله لتلبية شهواتهم الوحشية، قرروا التخلص منه بطريقة دموية، وكأن الأمر يتعلق بشريط سينمائي بوليسي أمريكي. ومن المحتمل جدا أن هذا المجاهد لم يكن يدرك أنه كان يتعامل مع بلطجية وقتلة لهم سوابق عدلية استعمارية.

بالتالي، فمأساة هذا المرحوم تلخص مأساة الجزائر الشقيقة التي عبث الجنرالات بها وبشعبها، وعبثوا بحياة آباء الحركة الوطنية الجزائرية التي فجرت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي يفسر مطالبة الحراك بالاستقلال عن العسكر، حيث ترسخ في متخيل الشعب الجزائري أن الجنرالات امتداد للاستعمار الفرنسي. لذلك، أتمنى للشعب الجزائري أن يتوفق في حراكه السلمي الحضاري الذي يعد، بحق، ثورة بيضاء تشكل إبداعا شعبيا جزائريا تحول إلى نموذج لمحاربة استبداد العسكر. فالعسكر يريدون أن يتحكموا في الجزائر وشعبها من خلف رئيس مدني، يتخذونه ستارا لما يرتكبونه من جرائم الفساد والعنف والتقتيل. وإذا استحال عليهم ذلك، اغتالوه، لأنهم هم من يفرضون « الرئيس » الذي لا يتمتع بأية شرعية سياسية. وكلما تراكم عليهم ضغط الشارع، تفرقوا إلى أجنحة يصفي بعضها البعض الآخر، كما قد يحولوا « الرئيس » إلى كبش فداء يقدمونه قربانا للشارع الجزائري. أضف إلى ذلك أن العسكر لا يقبلون بالديمقراطية، ولا بثقافتها، ولا بمؤسساتها، ولا بمقتضياتها، بالمأساة، لأنها تتناقض مع طبيعتهم، وهذا ما يفسر مكرهم وأضاليلهم ومؤامراتهم، وانقلاباتهم، وعنفهم، وتقتيلهم الجماعي للشعب الجزائري…

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *