عبد الكريم الخصاصي يكتب: وباء كوفيد-19 بين القوة القاهرة وسؤال الامن التعاقدي

الاستاذ عبد الكريم الخصاصي، محامي بهيأة تطوان يكتب: وباء كوفيد-19 بين القوة القاهرة وسؤال الامن التعاقدي

عرف الوضع الراهن في كل دول العالم أزمة خانقة، بسبب الوباء الفتاك فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19»، الذي خلف خسائر مالية واقتصادية وبشرية ولم يسلم المغرب بدوره من هذا الفيروس، مما استلزم عليه اتخاذ جملة من الإجراءات الاحترازية الخاصة بإعلان حالة الطوارئ الصحية، وذلك بموجب مرسوم 2.20.292، وسيؤدي هذا بدوره إلى نزاعات تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بسبب الآثار التي خلفتها هذه الجائحة بما في ذلك التأخير أو صعوبة و عدم تنفيذ مجموعة من الالتزامات التعاقدية.

ومن ثمة فقد اعتبر الفقه القانوني المغربي فيروس كورنا المستجد بمثابة قوة قاهرة بوصفها صورة من صور السبب الأجنبي الذي ينفي علاقة السببية بين فعل المدين وبين الضرر الذي لحق بالمضرور. وباعتبارها حادث خارجي لا يمكن للمدين توقعه، ولا يمكن له دفعه.
والقوة القاهرة ليست محصورة على وقائع محددة دون غيرها، فكل واقعة تحققت بشأنها الشروط وجعلت التنفيذ مستحيلا، إلا وعدت حالة من حالات القوة القاهرة. فلا يمكن للدائن أن يطالب المدين بالتعويض عن الضرر الذي لحق به نتيجة لذلك؛ لأن عدم التنفيذ لا يرجع إلى خطأ المدين، وإنما سببه هو الوباء الذي ضرب العالم عامة والمغرب خاصة، وهو بهذا المعنى يعد قوة قاهرة ويبقى بطبيعة الحال المدين هو الملزم بإثبات توافر هذه الشروط.

غير أن القول بتطبيق نظرية القوة القاهرة على جميع الالتزامات التعاقدية هو أمر لا يستقيم وطبيعة مجموعة من المعاملات وحيثيات وقائع العديد من الالتزامات حيث أن تطبيق النظرية يستدعي توافر مجموعة من الشروط والتي بدونها تخضع مجموعة من الالتزامات إلى أحكام أخرى، ومن ثم فإننا نتساءل هنا عن مدى إمكانية المدين الدفع بعدم تنفيذ الالتزام المبرم سلفا، استنادا إلى أزمة كورونا من خلال اعتبرها قوة قاهرة، من شأنها تأجيل تنفيذ الالتزام، وعدم وجوده، أي «المدين»، في حالة مطل؟

وللإجابة عن هذا التساؤل سوف نبحث أولا عن شروط تحقق القوة القاهرة من الناحية القانونية، ثم مدى توفرها في الظرف الاستثنائي المتمثل في أزمة «كورونا».

لقد تطرق المشرع المغربي في الفصل 269 من ظهير الالتزامات والعقود إلى أن القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية والفيضانات والجفاف والعواصف والجراد وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.

وجاء في الفصل نفسه أنه لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه، ما لم يقدم المدين الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه.

إن أول شرط يمكن أن نستشفه في التعريف الذي جاء به المشرع المغربي أعلاه يتمثل في شرط «عدم التوقع»، بمعنى أن تكون الوقائع التي تجعل من الالتزام التعاقدي مستحيلة التنفيذ غير متوقعة الحدوث من طرف الشخص المدين الذي يتمسك بها، وفي حالة ما إذا أمكن للشخص توقع حدوث تلك الوقائع، فإنه في هذه الحالة لا ينطبق عليها وصف القوة القاهرة.

ومن ثم فإن هذا الشرط متحقق في جائحة كورونا، على اعتبار أنه لا يمكن لأي شخص مهما كان توقع ظهور فيروس «كورونا»، وانتشاره بهذه السرعة الخطيرة بين مختلف الدول.

والشرط الثاني المستوجب توفره في واقعة القوة القاهرة فهو يتجسد في عدم القدرة على الدفع، بمعنى أن يكون الشخص المتمسك بعدم التنفيذ قد استحال عليه التصدي للواقعة المكونة للقوة القاهرة، أي إنها تتعدى الحدود الخاصة للشخص العادي.

وعليه فمتى كان بإمكان الشخص التصدي للواقعة المتمسك بها، ولو ببذل الجهد والعناية، فإن واقعة القوة القاهرة هنا غير محققة الوقوع من الناحية القانونية، حتى ولو كانت تلك الواقعة مما لا يستطيع المدين العادي توقعه، سواء أثناء إبرام العقد أو بعده أو وقت تنفيذه، وهذا هو ما قضت به مجموعة من المحاكم المغربية، وهذا هو ما عبر عنه المشرع المغربي عند قوله: «لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة، الأمر الذي كان من الممكن دفعه…».

ولهذا هذا فإن الشخص المتمسك بفيروس كورونا المستجد كقوة قاهرة في تنفيذ الالتزام من حقه الدفع به، خصوصا أن هذا الوباء الفتاك قد واكبه إعلان الحكومة المغربية عن إجراءات دقيقة، من شأنها التأثير المباشر على كافة الالتزامات التعاقدية، أيا كان أصلها تجاريا أو مدنيا.
والشرط الثالث الواجب توفره في واقعة القوة القاهرة فهو يتعلق بالأطراف، إذ إنه لا يجب أن يكون لهذا الأخير إرادة في إثارة القوة القاهرة، وفي هذا الصدد نجد أن القضاء الفرنسي قد أقر على أنه لكي يعتد بواقعة كقوة قاهرة، فإنه يجب أن تكون أجنبية عن المدين، وعن جميع الأشخاص الذين يسأل عنهم قانونيا من الناحية المدنية.

ومن خلال كل هذا فإنه يمكن التأكيد على أن وباء «كورونا» من شأن الأطراف التمسك به في تنفيذ التزاماتهم، باعتبار أنه تنطبق عليه الشروط المعمول بها والمستوجبة في تحقق واقعة القوة القاهرة، ففي إطار المعاملات التجارية مثلا، فإن عدم الوفاء في تقديم الخدمة المتفق عليها بين التاجرين بمقتضى عقد مبرم سلفا، يجعل التاجر المدين هنا من حقه التمسك أمام القضاء بحالة الظروف السائدة في هذه الظرفية المتأزمة، مع التأكيد على أن قضاء الموضوع يبقى له كلمة الفصل في هذا الصدد.

وفي حالة ما إذا اعتبر فيروس كورونا ضمن حالات القوة القاهرة، فإنه يترتب عن هذا فسخ العقود المبرمة، ومن آثار الفسخ إعادة الحالة بين المتعاقدين إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، ورد ما قبض تنفيذا للعقد.
وجدير بالإشارة هنا إلى أن القضاء الفرنسي اعتبر أن وباء كورونا يعد قوة قاهرة، وذلك من خلال قرار صادر عن الغرفة 6 لمحكمة الاستئناف «كولمار»، صادر بتاريخ 12 مارس 2020.

وتفيد دراسة نظرية القوة القاهرة في معرفة حدود التأثير الذي تحدثه على قيام المسؤولية المدنية، بغية التوفيق بين مصالح الطرف المتسبب في الخطأ والطرف المتضرر ضحية هذا الخطأ، وكذلك في توخي إنتاج أحكام وقرارات قضائية عادلة بين الأطراف المتخاصمة.
فإلى أي مدى يمكن للقوة القاهرة في زمن الكورونا أن تعفي المدين من التزاماته؟
وعليه ،فإننا في مناقشة ذلك سنتطرق في موضوعنا إلى محوريين اثنين:

المحور الأولى: الحالة التي يعتبر فيها فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 بمثابة قوة قاهرة:
بالرجوع إلى القانون المغربي نجد أن المشرع وضع نصين تشريعيين يشكلان الإطار العام لمفهوم القوة القاهرة ضمن ظهير الالتزامات والعقود، ويتعلق الأمر بالفصلين 268 و269 من ق.ل.ع، فبعدما أسقط المشرع الحق في التعويض بسبب تحقق القوة القاهرة و حدد آثارها بموجب الفصل 268 ،عمد في الفصل الموالي لتعريف القوة القاهرة إذ نص على أن :
(القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية والفيضانات والجفاف؛ والعواصف والحرائق والجراد)وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.
ولا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان من الممكن دفعه ما لم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه.

وكذلك لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة السبب الذي ينتج عن خطأ سابق للمدين).
فمن خلال مقتضيات هذا النص يمكن أن نخلص إلى أن المشرع المغربي يعتبر أن القوة القاهرة متحققة كلما حدث أمر غير متوقع لم يكن في الحسبان ،أي ضرورة توفر عنصر المباغتة و الفجأة، إضافة إلى عنصر العجز عن دفع هذا الحادث زيادة على شرط استقلال هذا الأمر عن إرادة المدين ،فلا تكون له يد في حدوثه ،وقد استعمل .الفقهاء المسلمون الآفة السماوية للدلالة على النازلة أو الأمر غير المتوقع حصوله والذي لا يمكن تلافيه كالأمطار الغزيرة والزلازل والصاعقة، وهي مرادفة للقوة القاهرة [1].

أولا: شروط القوة القاهرة:

لابد لتحقق القوة القاهرة من أن تتوفر في الواقعة مجموعة من الشروط حددها المشرع بمقتضى الفصل 269 من ق. ل.ع السالف الدكر تتجلى في:
الفقرة الأولى: عدم التوقع:
يشترط في الحادث حتى يعتبر قوة قاهرة وبالتالي يعفي من المسؤولية ،أن يكون غير متوقع ،ولا يخطر في الحسبان حصول مثله عند وقوع الفعل الضار[2]،أي أن تكون واقعة نادرة الحدوث كالفيضانات والزلازل مثلا ،والأمثلة التي وردت في الفصل 262 السالف الذكر هي من باب المثال وليس الحصر حيث تقاس عليها مجموعة من الحالات الأخرى المشابهة من قبيل الوباء الحالي ‘وباء كوفيد 19 المستجد ‘ ،فإذا كان المدعى عليه يتوقع حدوث الحادث فلا ينفي ذلك عن الحادث صفة القوة القاهرة.
وهو ما يثير مجموعة من الاشكاليات هنا تتجلى في العقود التي أبرمت بعد تفشي وباء كورونا بالعالم قبل وصوله إلى المغرب، أو تلك التي أبرمت بعد اكتشاف أول حالة بالمغرب فهل يمكن هنا الدفع بالقوة القاهرة خصوصا إذا أخدنا بعين الاعتبار طبيعة الفيروس المعدية التي تجعله سهل الانتقال من شخص إلى مجموعة كبيرة من الناس ،غير أن رأيا اخر يقول بأن الحادث لا يكون ممكن التوقع لمجرد أنه سبق وقوعه فيما مضى، فقد يقع حادث في الماضي، ويبقى مع ذلك غير متوقع في المستقبل،إذا كان ناذر الحدوث، بحيث لا يقوم سبب خاص لتوقع حدوثه[3].

لكن يبقى فيصل هدا الأمر هو المعيار الذي يمكن الاستناد عليه لتحديد ما إذا كان حادث ما متوقعا أم لا؟
يتجه أغلب الفقه إلى أن معيار عدم التوقع هو معيار موضوعي ،يعتمد تقديره على مقياس الرجل العادي الحريص على شؤونه الخاصة ،وبالتالي فلا يكفي أن يكون الفعل أو الواقعة المكونة للقوة القاهرة مما يمكن لمدين بالذات أن يتوقعه أو أن يتلافاه،وإنما يجب أن يكون عدم التوقع هذا قائما بالنسبة لأي مدين كان متى وجد في نفس الظروف التي يوجد فيها المدعى عليه،مع مراعاة الظروف العامة والخارجية التي تخص شخصية المدين وليس الداخلية أو الخاصة به.

.فقد تكون هنالك أحداث ممكنة التوقع في فترة زمنية معينة أو في مكان معين لكن لن تكون كذلك في المستقبل أو في جهة أخرى،كما قد لا يكون الحادث متوقعا ولكن توجد عناصر جدية أخرى ترتبط بالزمان أو بالمكان أو بالشخص المتعاقد أو نشاطه المهني توحي بتوقعه [4].
ويعتبر استخلاص معيار عدم التوقع من بين الأمور الموضوعية التي يستقل قاضي الموضوع بتقديرها مع التعليل.

الفقرة الثانية: استحالة دفع الضرر الناشئ عن القوة القاهرة

ليكون الحادث قوة قاهرة معفيا من المسؤولية ،لابد أن يكون مستحيل الدفع والمقاومة ،أي لا يكون في طاقة المدين دفع وقوعه ولا تلافي نتائجه ، فلا يستطيع المدين التخلص من تلك النتائج وبالتالي يجعل تنفي الالتزام مستحيلا ،ويشترط في تلك الاستحالة أن تكون مطلقة، فلا تكون استحالة بالنسبة إلى المدين وحده ،بل استحالة بالنسبة إلى أي شخص يكون في موقف المدين [5] فإذا كان بإمكان المدين تفادي تأثير الواقعة على تنفيذ الالتزام التعاقدي وذلك ببذل المدين بعض الجهد وتكبد بعض المشقة ،فإن القوة القاهرة لا تقوم من الناحية القانونية حتى ولو كانت تلك الواقعة مما لا يستطيع المدين العادي توقعه سواء أثناء إبرام العقد أو بعده أو وقت تنفيذه وهذا ما قضت به مجموعة من المحاكم المغربية[6].

ويتعين لتحقق لقوة القاهرة أن تكون واقعتها مستحيلة الدفع من قبل المدين الذي احتج بها للتحلل من التزامه التعاقدي ويقتضي هذا أمرين :الاول عدم استطاعته تلافي وجود الواقعة المكونة للقوة القاهرة والثاني عجزه-بعد نشوء هذه الواقعة- عن تجنب الاثار الناجمة عنها [7]. وهي حسب رأيي المتواضع يمكن تسميتها مجازا بالحالات الممتازة للقوة القاهرة خصوصا في ظل وباء كوفيد 19 بالنظر إلى أن هنالك فرضيات بكون بعض العقود أبرمت أثناء تفشي الداء ، ومعلوما من المدين نفسه، مما ينتفي معه الادعاء بعدم إمكان توقع الوباء لحظة إبرام وتنفيذ العقد.

غير أنه أعقب إبرام العقد في ظروف انتشار الوباء، قرار السلطات بحظر التنقل وتفعيل إجراءات الحجر الصحي مكانيا وزمانيا، وهو ما تنبثق معه استحالة التنفيذ لتحقق حالة القوة القاهرة ليس بفعل وباء فيروس كوفيد 19 وإنما على أساس فعل السلطة.

و اختلف الفقهاء حول المعيار الواجب الإتباع فيما يخص شرط استحالة الدفع ،غير أن المشرع المغربي، أخذ بمعيار الشخص العادي؛حيث يستنتج ذلك من خلال الفصل 269 :
(و لا يعتبر من قبيل القوة القاهرة الأمر الذي كان ممن الممكن دفعه
ما لم يقم الدليل على أنه بذل كل العناية لدرئه عن نفسه “.
آثار القوة القاهرة في إطار المسؤولية العقدية: ثانيا:
بعد تحقق شروط القوة القاهرة الناتجة عن فيروس كوفيد 19 لكافة شروطها في الالتزام التعاقدي،فإنها تجعله مستحيل التنفيذ حيث رتب عليها القانون آثارا مهمة أهمها إعفاء المدين الذي استحال عليه تنفيذ الالتزام من المسؤولية.

فإذا استحال على المدين في ظل انشار فيروس كوفيد 19 وما استتبعته من إجراءات صحية واقتصادية تنفيذ الالتزام التعاقدي لسبب خارج عن إرادته فإن ذلك يشفع له في التحلل من مسؤوليته العقدية، ويشترط في هذه الاستحالة أن تكون مطلقة وهو أمر يختلف باختلاف نوعية النشاط الذي يزاوله المدين حيث أن بعض الأنشطة وخصوص التجارية والخدماتية والالكترونية لم تتأثر بإجراءات الحد من فيروس كوفيد19.

ويترتب من الناحية القانونية على استحالة تنفيذ الالتزام العقدي، مجموعة من الآثار التابعة لتلك الاستحالة نوجزها كالآتي:
يتحلل المدين بانقضاء الالتزامات الأصلية من الالتزامات المتفرعة عن التزامه الأصلي فالالتزام التابع يتبع الالتزام الأصلي في حياته ومماته،فإذا كان الالتزام العقدي مضمونا بكفالة شخصية أو عينية انقضت الكفالة وبرئت ذمة الكفيل.بالإضافة إلى انتقال الحقوق ودعاوى المدين إلى دائنه في أصول معينة عند الاقتضاء [8] .

المحور الثاني:استثناءات تطبيق حالة القوة لقاهرة جراء فيروس كورونا المستجد كوفيد19 :
يظهر أنه قد تكون القوة القاهرة واضحة ويمكن تطبيقها بسهولة على حالات معينة في حين يصعب قد يصعب تطبيق ذلك في حالات أخرى،وهو ما سنتناوله في المحور الثاني.

أولا: الاستحالة الجزئية

تطرقنا في المحور السابق لاستحالة تنفيذ الالتزام بشكل مطلق بسبب فيروس كورونا كوفيد19 عند تحقق شروط القوة القاهرة ،لكن هنالك حالات قد يقتصر فيها أثر القوة القاهرة بسبب الوباء على جزء من الالتزام فقط ،حيث تظل إمكانية تنفيذ الجزء الآخر قائمة وتبرأ ذمة المدين في الوفاء فقط في الجزء الذي طالته القوة القاهرة ،لكن يشد عن المبدأ المذكور حالة الالتزامات العقدية المرتبطة بعضها بالبعض الاخر على نحو لا يقبل الانفصال بحيث إن انتهاء أحدها بسبب استحالة التنفيذ يؤدي بالتبعية لاستحالة الأخرى الممكنة [9] والأمر هنا متروك لتقدير قاضي الموضوع للفصل في ذلك.

وإذا كانت حالة القوة القاهرة مؤقتة ، فقد يكون من الممكن تنفيذ جزء من العقد وليس بقية الالتزامات التعاقدية.
في هذه الفرضية يمكن إزالة أو تعليق جزء من العقد ، الذي يصبح من المستحيل تنفيذه ، والجزء الآخر الذي يمكن تنفيذه ، بشرط ألا يسبب هذا التعليق صعوبات شديدة لأحد الأطراف المتعاقد [10].
كما يمكن تعديل الالتزامات التعاقدية عن طريق تعديل قيمتها أو مدتها أو اقتطاع جزء منها أو تمديد مدتها إذا كان من الممكن تنفيذها بسبب استحالة جزئية مؤقتة.

على سبيل المثال ، إذا انتهى تأثير فيروس كوفيد 19 قريبا ، يمكن الاستغناء عن جزء من العقد و سيتم تنفيذ بقيته ما لم يكن تنفيذ الالتزام في هذه الحالة مضنيا لأحد الطرفين وهو ما يصطلح عليه بتوقف العقد عند الاستحالة المؤقتة للتنفيذ والتي لا تهم سوى عقود المدة أي العقود الزمني أو العقود المستمرة ،وهي نوعان العقود ذات التنفيذ المستمر كعقود الايجار، والعقود ذات التنفيذ الدوري كعقود التوريد.

وتجاوزا يمكن إثارة توقف العقد حتى بالنسبة للعقود المؤجلة التنفيذ ،حيث يقتصر مفعول القوة القاهرة الي تمنع التنفيذ مؤقتا على تأجيل الوفاء إلى حين زوالها دون المساس بالمقدار المتعين أداؤه[11].
في مقابل ذلك لا ينطبق توقف العقد بالنسبة للعقود الفورية التي ترتب اثارها دفع واحدة لحظة إبرامها [12] كالبيع أو الوكالة التي ترد على تصرف قانوني واحد،غير أنه وجب التنبيه إلى أنه حتى إذا كانت الالتزامات الواردة بالعقد ممكنة جزئيا ، فإنه يجوز لأحد أطراف العقد أن يطلب إنهاءه على أساس أنه من المستحيل أو الصعب للغاية تنفيذه أو الالتزامات المترتبة على تنفيذه أو إذا تم تحويلها إلى التزامات مختلفة جذريا عن تلك التي تم التعهد بها في زمن ابرام العقد حتى إذا كانت الاستحالة جزئية أو مؤقتة بسبب حدث القوة القاهرة.

ثانيا:عدم تأثير القوة القاهرة بسببب فيروس كوفيد 19 على الالتزام:
إذا كان المبدأ هو أن القوة القاهرة بتحققها تعفي المدين من كامل المسؤولية عن عدم تنفيذ الالتزام، فإن هناك حالات لا تسعف فيها القوة القاهرة المدين في التحلل من التزاماته، وإنما يبقى مسؤولا رغم تحققها، نذكر منها:
الفقرة الأولى:إذا كان المدين في حالة مطل قبل تحقق القوة القاهرة:
إن من بين النتائج المترتبة عن دخول المدين في حالة مطل، حرمانه من الاستفادة من حالة الإعفاء التي ترتبها القوة القاهرة في الحالات العادية ،بحيث لو انتفت حالة المطل وتوفرت شروط القوة القاهرة لانقضى الالتزام وأعفي من كامل المسؤولية [13].

و بإعمال مفهوم المخالفة لما جاء في الفصل 335 من ق.ل.ع يستفاد ذلك بمعنى أنه لو أصبح المدين في حالة مطل فإن الملتزم لا يعفى من المسؤولية حتى لو أصبح التنفيذ مستحيلا بسبب القوة القاهرة الناتجة عن فيروس كوفيد19.

الفقرة الثاني: إذا اتفق الطرفان على تحمل المدين للقوة القاهرة:
لما كان العقد شريعة المتعاقدين فإنه يجوز للطرفين أن يعدلا باتفاقهما من أثر القوة القاهرة الناتجة عن فيروس كوفيد 19،ويترتب على ذلك أن يجوز لهما أن يتفقا على أن القوة القاهرة أو الحادث الفجائي لا يعفيان المدين من التزامه[14]فيعتبر صحيحا الشرط الذي يقضي بإلزام الأب بدفع كافة المصاريف المدرسية ولو تعذر على التلميذ مواصلة الدراسة والإقامة طوال السنة بسبب تفشي فيروس كوفيد 19.

خلاصة القول إن انتشار وباء كوفيد 19 وما اقتضاه من قرارات وإجراءات نتجت عنها أضرار جسيمة سوف تؤدي بصفة مؤكدة، إلى إثارة عدد كبير من قضايا الإعفاء والتعويض التي سترفع على أساس نظرية القوة القاهرة. ولكن القوة القاهرة كما سبق منا قد تكون واضحة ويمكن تطبيقها بسهولة على حالات معينة في حين يصعب تطبيقها في حالات أخرى، وهو ما يستوجب من القاضي مرونة كبيرة واستدعاء روح القانون ومراعاة كافة الجوانب والظروف في تكييفه للنوازل المعروضة .

ويبقى الحل الأمثل، لمعالجة آثار وباء كوفيد 19 لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي هو تبني الأطر القانونية السلمية ، ذلك أن الدعم وحسن إدارة الأزمات والمحن من شأنه تعزيز مبدأ الامن القانوني وتكريس مفهوم الامن التعاقدي، وهو ما أبانت عنه المملكة المغربية في كيفية إدارتها لهذه الأزمة متفوقة على العديد من دول العالم المتقدمة ويبقى اهم إجراء يتعين القيام به باستصدار شهادات ‘القوة القاهرة اسوة بشهادة الابراء الضريبية لإبراء الأطراف من مسؤولياتهم التعاقدية التي يصعب الوفاء بها متى تحققت شروطها ،وذلك من طرف لجنة خاصة يستحسن أن تتكون من فقهاء القانون والأطر القضائية المشهود لها بالكفاءة .
.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *