فلسفة العشق: تأملات في شعرية التصوف

لحسن حداد

المحبة مقابل الخوف. الإيمان عشق، محبة، عطف وحِلم. والمحبة نقيض الخوف. أساس الوجود محبة، عشق، تتجسد في الكون، كآية للحب الرباني اللامتناهي.

هذا الفيض من أسرار ومعجزات ومظاهر خارقة للكون المترامي ما هي إلا آيات للحِلم الإلاهي الخالد والمتجدد. إنه حِلم لا يعرف بداية ولا نهاية. يتجسد في أسرار الكون، في ثنايا الوجود، في مظاهر الفناء الذي لا ينتهي. الله نبض لا يفنى من الحب، من الحِلم، من الرحمة، من الإحسان، من العزة، من العلم، من القدرة.

الإيمان لا ينسجم والرعب، والذعر. الخوف ولوم الذات يجعلنا نرى الخالق مُخيفا، مُرعِبا، رهيبا. من يخاف الإلاه أكثر مما ينعم في عشقه، في محبته، في الزهد في التأمل في آيات خلقه، ممن لا يندثر ويفنى روحا وجسدا في ثنايا الكون، يتذوق أسرار الطبيعة وينعم بوجود الحياة في كل تفاصيلها، يعيش تائها، هاربا من رعب الذات ورعب المتخيل. وإيمان الذات المُحبة ترى في الله منبعا لا يفنى من الرحمة والمحبة والعطف. الإيمان كمحبة، الإيمان كعشق، الإيمان كفيض من العطف والرحمة. كثوبة إلى هذا الكم الهائل من الحِلم الإلاهي الذي لا ينضب.

يقول شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في « قواعد العشق الأربعون »: « إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا إنعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب لنا سوى الخوف والملامة فهذا يعنى أن قدراً كبيراً من الخوف والملامة يتدفق لقلوبنا، أما إذا رأينا الله مُفعماً بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك ». لهذا فالخوف من الخالق، بدل النعيم في محبته، ما هو إلا خوف من ذواتنا، من عواطفنا، من شذرات الروح تنشد ملحمة الوجود، من قشعريرة الجسد يحتفل بجوارحه، من دوران الكون حول ذواته يجسد سر حلقات لا متناهية للكون. المؤمن الذي يرى في الخالق مصدرا للخوف يعيش خائفا والمؤمن المفعم بالعشق الإلاهي، يظل تائها بين ثنايا وأسرار الوجود لا يخشى الموت ولا الفناء ولا رعشة الجسد ولا أسرار الروح.

ويقول محيي الدين ابن عربي: « لا يعرف نسبة الحبّ إلى الحق إلا من يعرف ذات الحق وهي لا تُعرف ». عشق الإلاه معرفة باطنية، حدس، تقرُّب للحقيقة الغير القابلة للإدراك عبر العقل أو الفعل. الحقيقة الإلاهية متعالية على العالِم والفيلسوف ولكنها قريبة من التائه بين دروب الكلمة وغموض الصوت ولا معنى المعنى؛ إنها حدس، جذف في الظلام، عشق لهذا المعنى الذي يتعالى عن كل معنى. أن تُدرِك ما لا يُدرَك، أن تُدرِك ما هو غير قابل للإدراك هو رحلة باطنية نحو شذرات من الكون لا يسلكها إلا العاشقون، إلا الراقصون على دوران يتناغم مع كنه المجرات، ودورانها حول سر لا يُدرك، سر الكون، سر الوجود، سريرة الحقيقة الربانية.

كما قال ابن الفارض: « وإذا سألتك أن أراك حقيقة/فاسمح ولا تجعل جوابي لن تُرى. » حِلم الإلاه بمن أراد الرؤيا؛ والرؤى أشكال باطنها عدم الرؤيا: من يَرى دون أن يَرى، من يُدرِك دون أن يَرى، من يُدرِك ولا يَرى. قال الله تعالى « فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » (سورة المائدة). من هم هؤلاء الغارقون في عشق الخالق. هم من قال عنهم جلال الدين الرومي بأنهم مثل من « يريد القمر » فلا « يتجنب الليل »، من « يسعى إلى الحب » « ولايهرب من ذاته. » المُحبون لله هم المُدركون لذواتهم، الهاربون إلى ذواتهم، المتصالحون مع ذواتهم. لأن الذات مثلها مثل الكون آية من آيات الحِلم الإلاهي المفعم بالحب الخالد.

يقول الحلاج: « و أيّ أرض تخلو منك حتّى/ تعالوا يطلبونك في السمـاء، تراهم ينظرون إليك جهـراً/وهم لا يبصرون من العماء. » والعماء هنا يأتي ممن ينظرون ولا يُبصِرون، ويُحسون ولا يُدركون، ويسمعون ولا يفهمون. النظرة الصوفية تجعلك تجد السر في الأرض قبل السماء، والقداسة في المُجهر به قبل المُبطن، في الظاهر قبل المُضمر. الدين محبة، والعبادة طقس من طقوس العشق، والعشق أصل الوجود، وحقيقة الوجود حِلم، رحمة من إلاه الفناء والخلود.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *