كيف تجعلنا السياسة أغبياء؟

إزرا كلاين

السياسة
هناك نظرية بسيطة تكمن داخل السياسة الأمريكية. تتربع بتفاؤل في أساس كل خطبة ومقال ومناقشة تقريبًا. تنساب خلال الدستور، وهي ثابت متكرر في خطابات الرئيس أوباما الأكثر تحريكًا. إنها ما يمكننا تسميته بـ”فرضية المعلومات الأكثر“: قناعة بأنّ أكثرَ أو أغلبَ معاركنا السياسية هي محضُ سوءِ تفاهمات. أما سببُ سوء التفاهم ذاك فهو قلةُ المعلومات – سواءً كانت عن التغير المناخي أو الضرائب أو العراق أو عجز الموازنة. لو كان المواطنون فقط أكثر وعيًا، حسب هذه الفرضية، فلن يوجد كل هذا الصراع.

نموذج جذاب بالفعل. توحي بأن أشقاءنا في الوطن ليسوا مخطئين بقدر ما هم مُضلّلون، أو جاهلون، أو -الأكثر قبولًا- “مضحوك عليهم” من قبل أوغاد الحزب الآخر. إنها توحي بأن جدالاتنا قابلة للحل وأن الإجابات على أكثر مشاكلنا تعقيدًا ليست جدلية على الإطلاق. هذه النظرية مشتهرة بالأخص في واشنطن، حيث يبذل المتحزّبون جهودًا طائلة لإقناع الآخرين بأن هناك بالفعل إجابة صحيحة للمشاكل المستعصية في السياسات الأمريكية – وبأنهم يملكونها.

لكن فرضية المعلومات الأكثر، ليست فقط خاطئة، بل إنها تؤتي نتائج عكسية. فأحدث الدراسات تظهر أنه كلما ازداد المتحزّبون إطلاعًا، كلما تعمقت خلافاتهم.

في إبريل ومايو 2013، شرعَ بروفيسور القانون بجامعة يال دان كاهان، بالعمل مع مشاركيه إلين بيترز، إريكا كانتريل، وبول سلوفيك، شرعوا في تقييم سؤال لطالما حيّر العلماء: لماذا لا تكون الأدلة الكافية فعّالة أكثر في حل الجدالات السياسية؟ على سبيل المثال، لماذا لا يُقنع جبلُ الأدلة على أن تغيّر المناخ خطر حقيقيٌّ، المتشككينَ في صحته؟

دان كاهان
الفرضية الرائدة، كما كتب كاهان وشركاؤه، هي “فرضية الإلمام بالعلم“، والتي تقول بأن المشكلة هي أن العامة غير ملمّين بما يكفي بالعلم للحكم على الجدال. إنها نسخة من فرضية المعلومات الأكثر: مواطنون أذكى وأكثر تعليمًا لن يواجهوا كل هذه المشاكل في دراسة العلم والأبحاث والقبولبنتيجته الواضحة عن التغيّر المناخي.

لكن كان لدى كاهان وفريقه فرضية مغايرة. ربما الناس ليسوا مقيدين بقلةِ المعلومات. في النهاية، هم لا يشككون في اكتشافات علماء المحيطات أو في وجود مجراتٍ أخرى. ربما هناك أشكال معينة من الجدالات لا يودّ الناس فيها معرفة الإجابة الحقيقية، بقدر ما يريدون أن يكسبوا الجدال. ربما كان البشر يفكرون ويحاجّون لأسباب أخرى غير معرفة الحقيقة – أسباب أخرى كتكبير مكانتهم في مجتمعهم، أو الحرص على عدم إغضاب زعماء قبائلهم [أحزابهم]. لو أثبتت هذه الفرضية صحتها، فإذًا لن يعني هذا إنهاء المواطنين الأكثر ذكاءً وتعليمًا هذه الخلافات، بل هذا يعني أن المشاركين فيها قد أصبحوا أفضل تسليحًا للمحاججة من أجل طرفهم الخاص.

أنشأ كاهان وفريقه وسيلة ذكية لاختبار أيٍّ من الفرضيتين على صواب. لقد جلبوا 1000 أمريكيّ واستطلعوا مواقفهم السياسية، ثم قدّموا لهم اختبارًا قياسيًا يستخدم لتقييم المهارات الحسابية. بعد ذلك قدموا لهم مسألةً لجس النبض. في شكلها الأول بدت كما يلي:

قام باحثون طبيّون بتطوير دواءٍ جديد لعلاج الالتهابات الجلدية. الأدوية الجديدة تعمل في الغالب لكنها أحيانًا تجعل الالتهاب أسوأ. حتى حين لا تعمل الأدوية، فالالتهابات الجلدية أحيانًا تتحسن وأحيانًا تسوء بمفردها. كنتيجةٍ فمن الضروري اختبار أي علاجاتٍ جديدة في تجربة لتحديد إن كانت تجعل حالة الجلد لأولئك الذين استعملوها أفضل أو أسوأ ممن لم يستعملوها.

أجرى الباحثون تجارب على مصابين بالتهاباتٍ جلدية.في التجربة قامت مجموعة من المرضى بتجربة العلاج لمدة أسبوعين، ومجموعة أخرى لم تقم باستعمال العلاج الجديد.

في كلتا المجموعتين، تم تسجيل عدد الأشخاص الذين تحسنت حالة جلدهم وعدد الذين ساءت حالة جلدهم في الجدول التالي. بما أن المرضى لا يُكمِلون الدراسات دائمًا، فعدد الحالات في المجموعتين ليس متساويًا تمامًا، لكن هذا لا يمنع من تقييم النتائج.

الرجاء تحديد ما إذا كانت نتائج التجربة تشير إلى أن العلاج الجديد يميل إلى جعل حالة الجلد أفضل أو أسوأ.

ما هي النتيجة التي تدعمها الدراسة؟
– الأشخاص الذين استعملوا العلاج الجلديّ كانوا أكثر ميلًا لأن تتحسن حالتهم عن أولئك الذين لم يستعملوه.
– الأشخاص الذين استعملوا العلاج الجلديّ كانوا أكثر ميلًا لأن تسوء حالتهم عن أولئك الذين لم يستعملوه.
إنها مسألة مخادعة تهدف لاستغلال “اختصارٍ عقليٍ” شائع. نظرة سريعة على الأرقام تشعر معظم الناس بأن العلاج الجلديّ حسّن من حالة الالتهاب. فأكثر من ضعف عدد الأشخاص الذين استعملوا العلاج تحسنت التهاباتهم. لكن إذا حسبت النسب بدقة، فإن الحقيقة هي العكس تمامًا: حوالي 25% من الذين استعملوا العلاج ساءت حالة التهاباتهم، بالمقارنة بـ16% فقط من الذين لم يستعملوه.

هذا النوع من من المسائل يُستعمل في تجارب العلوم الاجتماعية لاختبار قابليةِ الناس للتريّث وتقييم الأدلة المقدمة أمامهم. إنها تفرض على المختَبَرين أن يكبحوا اندفاعهم لاختيار ما يبدو صحيحًا وفي المقابل القيام بالجهد العقلي الصعب لتحديد ما هو صحيح بالفعل. في عيّنة كاهان، فشِلَ أغلبُ الأشخاص، سواءٌ كانوا ليبراليين أو محافظين. الاستثناء الأبرز –كما هو متوقع- كان الأشخاص الذين أثبتوا أنهم أفضل من المعتاد في الرياضيات، فقد مالوا أكثر للإجابة بشكلٍ صحيح. هذه النتائج تدعم فرضية “الإلمام بالعلم“: كلما كان الأشخاص أفضل في الحساب، كلما كانوا أكثر ميلًا للتوقف، ولتقييم الأدلة، واختيار الإجابة الصحيحة.

لكن كاهان وفريقه قاموا بإنشاء نسخة “مُسيّسة” من المسألة؛ هذه النسخة استخدمت نفس الأرقام كما في مسألة العلاج الجلديّ، لكن عوضًا عن الحديث عن الالتهابات الجلدية، كانت المسألة تركز على مشروع قانون لحظر حمل الأسلحة اليدوية في المناطق العامة. يقارن الجدول الآن بين عدد الجرائم في المدن التي حظرت الأسلحة اليدوية وبين عدد الجرائم في المدن التي لم تحظرها. في بعض الحالات، كانت الأرقام تشير –إذا تم حسابها بشكلٍ صحيح- إلى أن الحظر نجح في تقليل عدد الجرائم، وفي حالاتٍ أخرى كانت تشير إلى أنه فشل.

عندما وُوجهَ المشاركون بهذه المسألة حدث شيء مثير: مدى براعة الشخص في الرياضيات توقف عن التنبؤ بمدى أدائه في الاختبار. الآن كانت الأيديولوجية [الفكر] هي التي توجه الأجوبة. كان الليبراليون أفضل بكثير في حل المسألة حين كانت الإجابة تثبت أن تشريعات حظر الأسلحة تحدّ من الجرائم. لكن حين واجهوا نسخة المسألة التي توحي بأن حظر الأسلحة قد فشل، توقفت مهاراتهم الحسابية عن التأثير. لقد مالوا إلى إجابة المسألة خطأً مهما كان مستواهم في الرياضيات. المحافظون أبدوا نفس النمط ولكن في الاتجاه المعاكس.

الأداء الأفضل في الرياضيات لم يمنع المتحزّبين من الاتفاق على الإجابة الصحيحة وحسب، بل فرقهم أكثر. المشاركون ذوو القدرات الحسابية المحدودة كانوا أكثر ميلًا بنسبة 25% لاختيار الإجابة الصحيحة عندما كانت توافق فكرهم. المشاركون ذوو القدرات الحسابية الأفضل كانوا أكثر ميلًا بنسبة 45% لاختيار الإجابة الصحيحة عندما كانت تؤيد فكرهم. كلما كان الشخص أذكى كلما كان بإمكان السياسة أن تجعله أغبى.

تأمل مدى جنونية هذه الفكرة: كون المشاركين أفضل مستوًى في الرياضيات جعلهم أقل ميلًا للإجابة على المسألة بشكلٍ صحيح حين كانت الإجابة الصحيحة تعني خذلانهم لميولهم السياسية. لم يكن الناس يفكرون ليختاروا الإجابة الصحيحة، بل كانوا يفكرون ليختاروا الإجابة التي كانوا يريدونها صحيحة.

لم تكن تجربة الالتهاب الجلدي الأولى التي يظهر فيها كاهان أن التحزّب يملك طُرقًا للالتفاف حول الذكاء. في دراسةٍ أخرى، قام باختبار مستوى المعرفة العلمية لدى المشاركين إلى جانب فكرهم ثم سألهم عن المخاطر الناجمة عن التغيّر المناخي. لو كانت المشكلة هي أن الناس بحاجة لأن يعرفوا المزيد عن العلوم لتقدير مخاطر التغير المناخي بشكلٍ كامل، فيجب أن يرتفع مدى اهتمامهم مع مدى معرفتهم. لكن هنا أيضًا كان العكس صحيحًا: وسط الناس المتشكيين أصلًا في التغيّر المناخي، المعرفة العلمية جعلتهم أكثر تشكيكًا.

هذا سيبدو منطقيًا لأي شخصٍ قرأ أيًا من أعمال أحد منكري التغيّر المناخيّ الجادّين. إنها ملأى بالحقائق والأرقام، بالجداول والرسوم البيانية، وبالدراسات والاستشهادات. كثيرٌ من المعلومات خاطئة أو لا صلة لها بالموضوع، لكنها تبدو مقنعة. إنه أداءٌ رائع للبحث العلمي، ومنكرو التغير المناخي الذين يتعمقون فيه ينتهي بهم الحال لأن يكونوا أكثر ثقةً بأن التغيّر المناخيّ خدعة وبأن الناس لم يصرفوا الوقت الكافي لدراسة القضية. المزيد من المعلومات، في هذا السياق، لا يساعد المشكيين لاكتشاف الأدلة الأفضل. بل في المقابل ، إنه يجعلهم يبحثون عن الدليل الذي يثبت أنهم على صواب. وفي عصر الانترنت أدلة كهذه لن تكون بعيدة المنال أبدًا.

في تجربة أخرى وزّع كاهان وشركاؤه نماذج لسيرٍ ذاتية لعلماءَ مرموقين إلى جانب ملخص لنتائج أبحاثهم. ثم سألوا إن كان العالم المذكور متخصصًا وخبيرًا في مجاله بالفعل. اتضح أن تعريف الناسِ الحقيقي لـ”متخصص” هو “شخص يملك شهادات ويوافقني الرأي”. على سبيل المثال، حين كانت نتائج الباحث تؤكد مخاطرَ تغيّر المناخ، كان الأشخاص القلقين من تغير المناخ أكثر ميلًا بنسبة 72% للموافقة بأن الباحث كان متخصصًا أصيلًا. وحين كان نفس الباحث بنفس الشهادات مرفقًا بنتائج تثير الشك حول مخاطر التغيّر المناخيّ، كان الأشخاص المنكرون لتغيّر المناخ أكثر ميلًا بنسبة 54% لاعتباره متخصصًا.

يُسرع كاهان لتوضيح أن، في معظم الأحيان، يكون الناس متمكنين تمامًا للاقتناع بأفضل الأدلة. هناك الكثير من الاختلاف حول تغيّر المناخ أو حظر الأسلحة على سبيل المثال، لكن لا يوجد تقريبًا أي خلاف حول ما إن كانت المضادات الحيوية تعمل، أو ما إن كان فيروس H1N1 مشكلة، أو ما إن كان الإفراط في الشرب يعيق قدرة الناس على القيادة. على الأرجح، يتحول تفكيرنا إلى “عقلنة” حين نتعامل مع أسئلة قد تؤدي إجاباتها إلى تهديد قبيلتنا – أو على الأقل مكانتنا الاجتماعية داخل قبيلتنا. وفي تلك الحالات، حسب كاهان، فإننا نكون عاقلين تمامًا حين نخدع أنفسنا.

تخيل ماذا سيحدث لو فَرَضًا قرر شون هانيتي [إعلامي أمريكي محافظ] غدًا أن التغيّر المناخي هو الخطر الرئيس الذي يواجه كوكبنا. سيظن مشاهدوه في البداية أنه يمزح، لكن سرعان ما سيبدؤون بالاتصال به غاضبين. سينظم البعض مقاطعةً لبرنامجه، وسيقوم العشرات –وربما المئات- من منكري التغير المناخي المتخصصين بالرد على حملة هانيتي الجديدة. الكثير من أصدقاء هانيتي في الإعلام المحافظ سيتجنبونه وسينفرون منه، والبعض سيقتنص الفرصة للتقليل من شأنه والتنكّر له. بعض السياسيين الذين يُكنّ لهم الاحترام سيكونون غاضبين من خيانته للقضية. سيخسر صداقات، ومشاهدات، وأموال، بل قد يخسر وظيفته في نهاية المطاف. وعلى طول الطريف سيتسبب في أذىً شخصيّ كبير بينما يُنفّر بشكلٍ منهجي أقرب حلفائه السياسيين والمهنيين. سيكون على العالم أن يحدّث تصوّره عن من هو شون هانيتي وبماذا يؤمن، وسيكون على شون هانيتي أن يقوم بالمثل. وتغيير هويّتك عملية نفسية عصيبة.

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *