مكوط يكتب : مراقبة وتفتيش عمل كتابة الضبط على ضوء قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19

نظم تفتيش المحاكم بمقتضى الباب الأول من القسم الثاني من الظهير الشريف المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة ل 15 يوليوز 1974، بالفصول من 13 إلى 21، حيث اعتبر تفتيش المحاكم هو تقييم تسييرها وكذا تسيير المصالح التابعة لها والتنظيمات المستعملة وكيفية تأدية موظفيها من قضاة وكتاب الضبط لعملهم.
وبذلك، فظهير التنظيم القضائي ل 15 يوليوز 1974 لم يميز بين التفتيش القضائي والتفتيش الإداري، حيث كانت المفتشية العامة لوزارة العدل المكونة من قضاة كان يعينهم وزير العدل تتولى القيام بتفتيش المحاكم غير محكمة النقض أو للبحث في وقائع محددة، ولم تظهر هذه الازدواجية في التفتيش إلا مع مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد رقم 38.15، حيث تم تقسيم التفتيش إلى تفتيش قضائي تتولاه المفتشية العامة للشؤون القضائية وفق أحكام المادة 101 من المشروع وأحكام المادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتفتيش إداري يخضع لأحكام المادة 03 من المرسوم رقم 2.10.310 المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة العدل (ولأحكام مشروع مرسوم يتعلق بتنظيم وزارة العدل وتحديد اختصاصاتها الذي سينسخ هذا المرسوم – خاصة المادة 5 من مشروع المرسوم)، ولأحكام المرسوم رقم 2.11.112 ل 23 يونيو 2011 المتعلق بالمفتشيات العامة للوزارات، خاصة المادة الثانية التي تحدد اختصاصات المفتشيات العامة للوزارات.
وتعتبر تجربة المغرب فريدة في هذا المجال، إذ نجد أن العديد من البلدان ذات النظام القضائي المشابه لا زالت تبقي على مفتشية عامة تجعلها بيد وزير العدل، ومن ذلك مثلا فرنسا حيث تتبع المفتشية العامة للمصالح القضائية لسلطة وزير العدل، كما أن المشرع اللبناني قد لا زال يبقى من خلال الفصل 103 من قانون تنظيم القضاء العدلي لسنة 1983 على إشراف وزير العدل على هيئة التفتيش القضائي، في حين ذهبت بلدانا عربية أخرى أبعد من ذلك وجعلت المفتشية العامة للشؤون القضائية مستقلة عن وزير العدل وعن المجلس الأعلى للقضاء، والمثال يصدق على تونس.
لذلك، فإن التفتيش القضائي المسند بمقتضى المادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية للمفتشية العامة للشؤون القضائية، والتفتيش الإداري والمالي المسند بطبيعته للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل يعتبر من بين النقاط المهمة التي فصل فيها قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19، وقد أثير ذلك بناء على رسالة الإحالة من طرف رئيس الحكومة، والتي التمست من خلالها من المحكمة الدستورية توضيح مطابقة المواد من 102 إلى 109 من مشروع قانون التنظيم القضائي للدستور، باعتبارها تعديلات أدخلت من طرف مجلس المستشارين وتمت المصادقة عليها من طرف مجلس النواب في قراءته الثانية.
وقد أسس القاضي الدستوري من خلال قراره بخصوص التفتيش بنوعيه، خاصة منه التفتيش الإداري والمالي، لقاعدة دستورية جعلت اختصاصه للنظر في مطابقة النصوص للدستور، لا يقتصر فقط على المؤسسة التشريعية « القوانين التنظيمية والقوانين العادية وفق أحكام الفصل 132 من الدستور »، بل امتد لمراقبة الجانب التنظيمي للحكومة « المراسيم والقرارات والمناشير…. »، حيث إنه رغم اعترافه بالطابع التنظيمي للتفتيش الإداري والمالي، فقد نظر في مدى مطابقة المواد المنظمة له « المواد من 102 إلى 109 من مشروع قانون التنظيم القضائي » للدستور.
التفتيــــش القضائـــــــي

حسم قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19 في أن التفتيش القضائي يجب أن يأتي في شكل قانون بناء على مقتضيات المادة 53 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والتي نصت على أنه « يتوفر المجلس على مفتشية عامة للشؤون القضائية يُحدد القانون تأليفها واختصاصاتها وقواعد تنظيمها وحقوق وواجبات أعضائها »، ومن ثم بنت قناعتها على ضرورة تنظيم هذه المفتشية بقانون.
ومعلوم أن المفتشية العامة للشؤون القضائية تتولى مراقبة وتفتيش القضاة سواء منهم قضاة الأحكام أو قضاة النيابة العامة وتقييم أدائهم على ضوء مؤهلاتهم والمهام الموكولة إليهم وطرق ممارستها، بغية تحديد المشاكل والصعوبات واقتراح الحلول المناسبة لتطويره .
ولم يفصل قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19 في صلاحيات المفتشية العامة للشؤون القضائية المتعلقة بتفتيش الموظفين التابعين لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، على اعتبار أنه كان مقيدا بمراقبة دستورية المواد من 102 إلى 107 من مشروع قانون التنظيم القضائي رقم 38.15 والمتعلقة بالتفتيش الإداري والمالي، ولكنه على الرغم من ذلك، وبمفهوم المخالفة، فقد بسط يد التفتيش القضائي على الأعمال الشبه قضائية للإدارة القضائية من خلال الحيثية رقم 11 من رسالة الإحالة من حيث الموضوع (الصفحة 12 من القرار) بمناسبة مناقشته لمقتضيات المواد من 102 إلى 107، والتي جاء فيها : » وحيث إن اختصاص التفتيش المخول للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، يجب أن يَبقى، مراعاة لاستقلال السلطة القضائية، محصورا في الجوانب الإدارية والمالية للإدارة القضائية، ولا يمتد إلى عملها القضائي الموكول للمفتشية العامة للشؤون القضائية ».
وعليه، وفي ظل عدم صدور القانون المنظم للمفتشية العامة للشؤون القضائية، وانطلاقا من أحكام المادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وأحكام المادة 101 من مشروع قانون التنظيم القضائي رقم 38.15، واعتبار لارتقاء السلطة القضائية في دستور 2011 إلى سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن اختصاصات هذه المفتشية العامة لن تحيد عن كونها تتولى التحري والتحقيق والمراقبة وتقييم عمل القضاة وسير المحاكم وأساليب أدائها وتوحيد مناهج العمل بها، والكشف عن الاختلالات المهنية بهدف تقويمها، ووضع الإجراءات الكفيلة بالرفع من النجاعة القضائي، وإنجاز التقارير بذلك ورفعها للمجلس.
ويبقى التساؤل المطروح في ظل عدم صدور القانون المنظم للمفتشية العامة للشؤون القضائية حول مدى مشروعية الإجراءات وعمليات التفتيش المباشرة من قبل المفتش العام والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ؟ وهو تساؤل لم يجب عليه القرار، خاصة أن المقتضيات المتعلقة بالتفيش المنصوص عليها في ظهير التنظيم القضائي ل 15 يوليوز 1974 لا تسعف في تحديد هذه الاختصاصات ؟
ويمكن أن يترتب عن هذا التساؤل إشكال حول مشروعية عمليات التفتيش والمساءلة والقرارات التأديبية التي يمكن أن يتخذها المجلس الأعلى للسلطة القضائية على ضوء هذه العمليات، في ظل وجود مفتش عام عين وفق أحكام المادة 53 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائي، عدم وجود نص قانوني يحدد تأليف واختصاصات المفتشية العامة للشؤون القضائية وقواعد تسييرها وحقوق وواجبات اعضائها، وهو الأمر الذي يدعو إلى التعجيل بإصدار هذا القانون، وتبعا لذلك تعيين المفتشين يساعدون المفتش العام في مهام التفتيش.

التفتيـــــش الإداري والمالــي

سن القاضي الدستوري بناءً على مقتضيات المادة 72 من الدستور التي تحدد اختصاص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون، قاعدة دستورية تجعل مجال تنظيم التفتيش الإداري والمالي من المجالات التنظيمية على غرار باقي الوزارات الأخرى، حيث جاء في الحيثية رقم 9 من رسالة الإحالة من حيث الموضوع (الصفحة 11 من القرار ) بمناسبة مناقشته لمقتضيات المواد من 102 إلى 107 ما يلي : »حيث إن مُبرر جمع التفتيش القضائي والتفتيش الإداري والمالي في قانون واحد، المُضمن في الأعمال التحضيرية للبرلمان، بحكم أن الأمر يتعلق بمحاكم التنظيم القضائي، سيجعل، فضلا عما تقدم، التفتيش الإداري والمالي التابع للوزارة المكلفة بالعدل الوحيد المنظم بقانون، في حين أن باقي المفتشيات المماثلة، الممارسة للاختصاص ذاته، التابعة لوزارات أخرى منظمة بنصوص تنظيمية، وهو تَمييز لا يجد أي أساس أو سند دستوري له ».
وأضاف كخلاصة لذلك من خلال في الحيثية رقم 10 من رسالة الإحالة من حيث الموضوع (الصفحة 11 من القرار ) بمناسبة مناقشته لمقتضيات المواد من 102 إلى 109بأن: « التفتيش الذي يجب أن يأتي على شكل قانون، هو التفتيش القضائي وليس التفتيش الإداري والمالي المندرج في عمل السلطة التنظيمية، مما يَستدعي تنظيمه وفق نص تنظيمي عملا بأحكام الفصل 72 من الدستور ».
وذهب قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19 أبعد من ذلك، بأن أقر في الحيثية رقم 11 من رسالة الإحالة من حيث الموضوع (الصفحة 11 من القرار ) بمناسبة مناقشته لمقتضيات المواد من 102 إلى 109 بأنه : »فضلا عن أن قاضي المشروعية، لا يراقب دستورية المراسيم، فإن المراقبة الدستورية، الممارسة طبقا للفصل 132 من الدستور، وعلى عكس مسطرة تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم (الفصل 73) أو مسطرة الدفع بعدم القبول التشريعي (الفصل 79)، لا تحُد عمل المحكمة الدستورية في التصريح في مدى اندراج المقتضى المعروض عليها في مجال القانون أو مجال التنظيم، بل يتعداه إلى فحص مدى مطابقة مضمون المقتضى المعني، ذي الطبيعة التنظيمية، للدستور ».
وبناءً عليه، فقد بسط القاضي الدستوري يده في مراقبة مدى مطابقة المواد 102 إلى 109 للدستور، رغم كونها تكتسي طابعا تنظيميا، حيث أفرز مجموعة من القواعد الدستورية تعتبر مقيدة في تنظيم المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل وتنظيم التفتيش الإداري والمالي، يمكن أن نوردها كما يلي :
1 – اعتبر المواد من 102 إلى 109 التي ينبغي أن تكتسي طابعا تنظيميا مطابقة للدستور؛
2– حسم القاضي الدستوري في الطابع التنظيمي الذي يجب أن يكتسيه تأليف وتنظيم واختصاصات المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، والذي يجب أن يأخذ شكل مرسوم على غرار باقي مفتشيات الوزارات الأخرى؛
3– حصر اختصاص هذه المفتشية على الجوانب الإدارية والمالية للإدارة القضائية، دون عملها الشبه قضائي الموكول للمفتشية العامة للشؤون القضائية « الحيثية رقم 11 من رسالة الإحالة من حيث الموضوع (الصفحة 12 من القرار) بمناسبة مناقشته لمقتضيات المواد من 102 إلى 107″، وبهذا يكون قد أخضع عمل موظفي كتابة الضبط الذي يكتسي الطابع الشبه قضائي للتفتيش القضائي، حيث إنه غالبا ما سوف يتم في إطار التفتيش المشترك بين المفتشية العامة للشؤون القضائية والمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل.
وبمفهوم مخالف، فقد منع القاضي الدستوري المفتشية العامة للشؤون القضائية من التفتيش في الجوانب الإدارية والمالية للإدارة القضائية، التي يبقى التفتيش بشأنها خالصا للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل؛
4- أن التفتيش الإداري والمالي للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، يتم إلى جانب التفتيش المناط بالمسؤولين القضائيين والكاتب العام لمحكمة الاستئناف، وأن التقارير التي تُعدها المفتشية المذكورة تحال على المسؤولين الإداريين والقضائيين للمحاكم، بالنظر لإشرافهم على التدبير الإداري والمالي للإدارة القضائية، للاطلاع عليها وتقديم أجوبة عنها، عند الاقتضاء، وأن هذا التفتيش لا يهم القضاة ولا يعني عملهم القضائي ولا النشاط الشبه قضائي للإدارة القضائية، مما يجعل عمل المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، من هذه الوِجهة، ليس فيه ما يخالف الدستور؛
5- أن الاستماع إلى المسؤولين القضائيين بمناسبة التفتيش الإداري والمالي، يعتبر من صلاحيات المفتشين التابعين للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، ويشكل إلى جانب ذلك إجراءً لَتفعيل ما تتطلبه الفقرة الأخيرة من المادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، التي تنص، على أنه « يُراعي المجلس كذلك التقارير التي يعدها الوزير المكلف بالعدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير والتسيير الإداري للمحاكم، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية؛
6 – أن إشراف وزارة العدل على المسؤولين القضائيين فيما يتعلق بالتدبير الإداري والمالي للمحاكم، هو المدخل للاستماع إليهم وإعداد التقارير حولهم فيما يتعلق بالجوانب الإدارية والمالية التي يشرفون عليها، ولا يطال العمل القضائي الخاص بهم؛
7 –أن قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19، أسس لنوع جديد من التفتيش الإداري والمالي، يمارسه الكاتب العام لدى محكمة الاستئناف شخصيا في إطار التفتيش التسلسلي مرة في السنة على الأقل، ويعد بشأنه إلى جانب الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف والوكيل العام لديها تقارير بنتائج التفتيش تحال وترفع إلى الوزير المكلف بالعدل وتوجه نسخة منها قصد الإخبار للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ولرئيس النيابة العامة.
وخلاصة القول، فإن قرار المحكمة الدستورية رقم 89.19 قد أسس لمجموعة من المفاهيم الجديدة في مشروع قانون التنظيم القضائي، واستند على رسالة الإحالة من طرف رئيس الحكومة ليبسط يده على مجموع مواد مشروع قانون التنظيم القضائي رقم 38.15، سواء تلك التي شكلت لبسا للحكومة، أو تلك التي أثارتها المحكمة تلقائيا، وفصلت فيها الكلام، ولاشك أن تداعيات هذا القرار لا زالت تظهر على مستويات عديدة تشكل هيئة كتابة الضبط أو الإدارة القضائية بمفهوم القرار إحدى تجلياتها، والعمدة على الحكومة والمؤسسة التشريعية في إعداد صياغة مواد مشروع قانون التنظيم القضائي رقم 38.15 بما يمكن من استبعاد المواد الغير المطابقة للدستور وتنزيل حيثيات قرار المحكمة الدستورية ومنطوقها واللذين يبقيان ملزمين لهما على كل حال .

الجيلالي مكوط

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *