شهر في الجزائر (1)

نادر فرح

في صيف عام 2004، مع إنتهاء الموسم الدراسي بحيازتي لشهادة « الباك« ، قررا والدايا إهدائي رحلة شبه إجبارية نحو البلد الأم للأم( الجزائر)، مع ديكتاتورية الأب و حنان الأم ما كان عليٌ إلاٌ أن أقبل العرض.

علماً أنها المرة الأولى « لي كنفوت طنجة« ، إستعداداتي دامت الأسبوع، كِدْتُ أن أحزم بيتي كاملا لجره معي بدل إختزال كل شيء في « شانطة«  وحدة، لولا تدخل الأب صابَّا جم غضبه علي؛ « مالك واش باغي تشوه بيا ولا ! واش عمرك ما شفتي شي حاجة ولا !؟

جمعت حقيبتي وتوجهت إلى سيارة أبي ليقلَّني نحو مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، خرجت من باب المنزل، والبعض مُحْتَفِل، أختي الكبيرة وأخي الصغير (على الأقل في هذه المدة التي سأقضيها خارج البلاد، سيقتسمون إستعمال الحاسوب على حصتين فقط وإستغلال حصتي كذلك)، وبين من حول المنزل إلى دار عزاء، أمي وعمتي (بكاء و« تنخسيس«  سلم على حناك لويزة وخالتك يزة…)، أما الأب الصنديد فقد شغل محرك العربة وفي يده جلدة المسح (پو د شامو)، تارة يمسح نوافذ العربة وتارة يوجه كلامه للعائلة؛ « وطلقونا خلاص راه باقي تابعانا الطريق« !!

وضعت حقيبتي في صندوق السيارة وقبل أن أمتطي السيارة، أعدت التأكد للمرة المليون من صحة الوثائق تفادياً غضب الأب قبل كل شيء، ركبت السيارة وعينايا على شفَتَا أبي، حين حولت زاوية النظر نحو عيناه، اغرورقتا دموعاً رغم تظاهره باللاشيء، ناطقاً بلهجة يعلوها الحزن؛ يااااا بسم اللله يا فتاح يا رزاق!

ونحن في الطريق بدأت أشعر أن أبي غيَّر تصرفاته نحوي وبدأ يستلطفني بكلمات الأب نحو إبنه؛ راني بغيتك غير تكون راجل و تعتامد على راسك ونعول عليك وتجمع راسك، هانتا غادي تسافر وتتهنا مني (مبتسماً)، سير أسيدي وتبرع وتسارا مزيان وعرف العائلة… خاتما كل فقرة من كلامه بلازمته « پروفيط طوا«  وعيناه تبتسمان ساخرةً.

بدأت أشعر بأبي الذي تمنيته طوال حياتي، الأب الصديق الأخ…

وصلنا إلى مطار الإقلاع نحو ساعة قبل الرحيل، بين الإجراءات الإدارية والجمركية المعتادة… فُزْتُ بلحظة قهوتي المفضلة وصديقي « الجديد« ، نصف ساعة في مقهى بالطابق العلوي لمطار محمد الخامس كانت كافية لتصلح ما أفسدته إرهاقات العمل وغياب التواصل بين الأبناء وآبائهم. ونحن منغمسان في حديث السفر والعائلة والتوصيات… فجأةً سمعنا صوت « سلعفانة«  الإرشادات موجهة خطابها للمسافرين: « مسافرو الخطوط الملكية المغربية المتجهين إلى مطار الجزائرالعاصمة، المرجو التوجه إلى محطة الإركاب الدولية«  … يخرب بيتك! في هذه اللحظات فقط تمنيت لو تأخرت الرحلة أو حتى إن أُلغِيَت، لقضاء مزيدا من الوقت مع أبي الأخ الصديق …

« نوض أوليدي نوض شد بلاصتك الله يوصلك على خير« ، كانت هذه الجملة تقريبا آخر ما نطق به أبي وهو يودعني، مرافقا إياي إلى باب الإركاب عانقني عناق أب لإبنه وبدأت عيناه تدمعا « فرحزنا« ، للإشارة أنه لم يسبق لي أن رأيت أبي وهو يدمع إلا لحظة وفاة عمي المصاب بـ« الزهايمر« .

أشرت جوازي وصعدت سلم الطائرة وأنا لم أتخلص بعد من شغبي، تارة تجدني متحرشا بمضيفة الطائرة وتارة أعبث بتجهيزاتها، خاصة أنها المرة الأولى التي أصعد الطائرة… ساعتان في الجو.

بعد صعودنا الطائرة ومحاولة أخذ مقاعدنا المرقمة، هنا فقط اقتنعت أننا شعب يستحق محو الأمية، الكل يصرخ:

« النمرة مياوربعاوعشرين فين كاينة؟« ، نوض نوض من بلاستي!! وانا فين نگلس ؟! أسيدي نوض هادي بلاستي شوف نتا فين تگلس!

عجوز في عقده السابع: وواللللله لا قلعات هاد لمشقوفة، شكون دالي لقراب ديالي؟!

<< محطة ولاد زيان صافي >>

طاقم الطائرة حائر، « سپيكرينات«  تلهثن من ضغط الربان وتخلف المسافرين، فجأة غيَّر الطاقم خطابه الإرشادي إلى خطاب شديد اللهجة:

« واش تشدو بلايصكم ولا غادي نتعطلو ساعة أخرى« 

شعب يهاب ولا يستحيي نحن!

تعود فتاة الإرشاد وتتحدث على الميكروفون: « ميدامزيميسيو بونسوار…«  هتافات استهجان، سب وشتم… واش حسابليها نصارى ولا! يصرخ واحد من ذوي الشطاطيب، وأنا مُسَمَّر في مقعدي وقلبي ازداد نبضاً، حين سمعت « بولحية«  ما ذا قال.

علما أن سنة 2004 كانت موسم الإرهاب في المغرب العربي، ومع قليل من وسوسة الشيطان: ناري هاد الطيارة موحال واش توصل بسلام!

أخرجت قارئ أقراص من محفظتي، وعينيَّ على « بولحية«  من يدري، قد يُكَفِّرنِي لإستعمال سماعات الموسيقى بدعوى أنها من صنع « الكفار«  دون أن يتذكر أن « البوينگ737″ هي كذلك من صنع « الكفار« .

فجأةً سمعنا صوتاً ذكورياً مقدماً نفسه « معكم القبطان فلان«  لم أتذكر اسمه للأسف، إلا أنه كان إسما بَلَدِياً أثار سخرية البعض بقهقهات متذبذبة قائد الرحلة رقم… نرحب بكم ونتمنى لكم رحلة سعيدة، الطائرة ستقلع بعد خمس دقائق، المرجو ربط الأحزمة« .

حل صمت رهيب ما زاد من خوفي، اللطيف والتضرع إلى الله… و صوت اللِّحِيِّ يعلو باقي الأصوات…

صفير محركات الآلة العملاقة بدأت تعلو شيئاً فشيئاً، الطائرة في السماء، الكل حمد الله « مؤقتاً« ، سحبت قنينة ماء معدني صغيرة « سيدي علي« ، كنت قد اقتنيتها بمبلغ 15 درهم من أحد متاجر المطار بدل ثمنها الذي يقل عن 3 دراهم خارج المطار هي لي لقاو عندي، ارتشفت منها القليل حتى هدأت أعصابي وتثاقل تدفق الادرينالين.

<<  نقطة وجب الإشارة إليها بكل فخر و إعتزاز والإشادة، الربابنة المغاربة و مساعديهم يستحقون كل الإحترام فعلاً، مهنية جد عالية و ثقافة جوية هامة، ينالوا إحترام كل ربابنة العالم >>

شغلت الموسيقى ظناً مني أنها ستخفف وقع الرحلة، نظرت إلى جانبيّ؛ على يساري عجوز شابَ وليدها رفقة إبنها، وعلى يميني رجل « أفعال«  هو من بادرني بالسؤال؛ سي لا پروميير فوا جو كخوا؟ هنيهة وأجبته: وي أول مرة.

وضعت السماعات حتى أغلق باب « من أنتم؟« ، محاولاً النوم ولو قليلاً، فضلت موسيقى الغيوان وقطعات « خاترة« ، على أن أسمع ربما قصص الألف رحلة ورحلة، التي سيسردها علي رجل الأفعال جانبي.

غرقت في نوم عميق نظرا للإرهاق والخوف… فجأة أفاقني صوت المضيفة؛ « نحن في أجواء مطار الجزائر العاصمة، بعد عشر دقائق ستهبط الطائرة، من فضلكم راقبوا أحزمتكم واستعدوا للهبوط« .

هنا « ضرباتني التوگيضة« ، ارتشفت قليلاً من الماء، وضعت قارئ الأقراص في جيب المحفظة، في الحقيقة لم أحس بالهبوط إلا وقت ارتطام العجلات بالأرض فقط، هذا ما ينم عن مهنية وحرفية الربابنة المغاربة.

خمس دقائق بعد هبوط الطائرة، فُتِحت أبواب الطائرة ليستقبلنا نسيم عليل من جو صيفي شبه معتدل ليلاً.ها نحن في « الدزاير« 

اترك تعليقاً

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *